بين وهابية السبعاني وتصدع وهابية الدخيل

لا بد من مُقدمة وتفصيل فليتحملني القارئ الملول لطفاً.
في أكتوبر من عام 2012 صدر كتابي الموسوم بـ«الوهابية دين سعودي جديد» وذلك بعد جهد ومشقة كبيرة وتحضير وتمحيص طويل, تكلل بالقراءة والبحث والتقصي والمُقارنة بين المصادر النجدية والعربية وأيضاً كُتب الرحالة والمُستشرقين الأجانب, وكانت العقبة الكأداء التي تقف في نهاية المطاف هي التفتيش عن دار نشر حُرة  تقبل أن تُغامر بطباعة ونشر ذلك الكتاب الموعود, خاصة إذا كان هذا الكتاب لا يجلب إلا المتاعب والحرج لدور النشر العربية الريعية التي تعودت على تلقي الدعم والتمويل من قبل مؤسسات إعلامية وثقافية حكومية خليجية, كما تحظى بالتفضيل والتسهيلات في معارض كُتب الخليج وعلى رأسها معرض الكتاب في الرياض.
وكانت مُعاناتي الشخصية الدائمة هي انعدام دور نشر حُرة ومُستقلة أو على الأقل مؤسسات جريئة تستطيع أن تكسر ذلك «التابو» أو المحظور في كواليس النشر في عالمنا العربي, لأن دور النشر العربية هي في الأساس مؤسسات تجارية ربحية ولا تريد قطعاً أن تسلك مسلك النشر الحر المفتوح, فتدخل في إشكالات سياسية أو تستفز الدول صاحبة التمويل والدعم, لهذا تبتعد تلك الدور عن كل ما يُثير حفيظة الأنظمة العربية والخليجية تحديداً, وأصبح لديها خطوط حمراء ومحظورات معروفة غير مكتوبة, فما بالك إذا تعلق الأمر بمحظورين في آن واحد كما هو الحال في كتابي, وهما المس بالذات الملكية السعودية أو التعرض لآلهتهم الوهابية المعصومة وصنمهم المقدس محمد بن عبد الوهاب, فالطباعة هنا ستكون أشبه بالانتحار بالنسبة لدار النشر, لأن المال السعودي يجري كالسيل العرم في جميع الاتجاهات خارج مجرى البحيرة الآسنة.
فيبقى الباحث المستقل حائراً وخياراته جد محدودة وهو أمام طريق مسدود, وفي مثل حالتي سيكون أمام خيارين أحلاهما مُر, فإما أن يتوجه إلى دار نشر مذهبية لديها أجندة خاصة بها, لكي ينشر كتابه وحينها سيحكم على كتابه بالفشل والاحتراق منذ البداية, لأنهُ سمح لخصم طائفي أن يطبع كتابه, حينها سيذهب جهده ادراج الرياح, أو أن يدفع مال طائل لبعض دور النشر المتوارية التي تمارس مهنة طباعة الكُتب الممنوعة في الخفاء, فتقوم ينشر الكتاب سراً ودون أن تضع اسم الدار ثم تسلم الكمية المحدودة ولا علاقة لها بالمؤلف أو بالكتاب, وهذا الأمر سيحرمك من ديمومة نشر الكتاب ومن بعض الحقوق الأدبية والمادية أيضاً وإن كانت بدرجة شبه معدومة.
وستستمر تلك المُعاناة مع كل صاحب رأي أو فكر مُخالف لأنظمة الطغيان العربية دون استثناء ومع كل من يُغرد خارج السرب أو من هو متمرد على نسق القطيع, لهذا يفضل البعض أن يلجأ إلى وسيلة النشر المجاني عبر شبكة الانترنت خصوصاً بعد أن أصبحت الشبكة العنكبوتية هي المنبر الحر البديل والمفتوح للجميع, إلا أن تلك الطريقة لن تحفظ لك الحقوق ولن تحصل على الترقيم الدولي أو رقم الفسح (البار كود) الخاص بملكية الكتاب, فيبقى الكاتب أو المؤلف في حيرة من أمره, هل يبقى جندياً مجهولاً أم يسعى لتوثيق الكتاب المزمع نشره حسب قانون النشر المُتعارف عليه.
وفي حال العثور على دار نشر يمكن أن نطلق عليها صفة "الانتحارية" فأنك ستكون أمام مشكلة أخرى وهي ارتفاع تكلفة النشر لمثل تلك الكتب الممنوعة ولأسباب أيضاً معقولة, لأن الناشر سيبرر أن الكتاب لا يُمكن تسويقه على الأقل في 6 دويلات خليجية ومعهم سابعهم ملك الأردن, وسوف لن يُسمح بعرضه في أغلب معارض الكُتب, ناهيك عن حجم بعض الكتب الكبير والتي تكلف في عملية طباعتها, فمثلاً كتابي يتكون من 1270 صفحة وفي الطبعة الثانية سيتجاوز الـ 1300 صفحة, أي أنك أمام مُجلد وليس كتاب عادي.
وحين تشرح تلك المُعاناة لبعض الأصدقاء, يُبادرك بالحل السحري المتوفر لديه وهو : لديك «دار الساقي» فهي تنشر كُتب لبعض المُعارضين؟
وكأن دار الساقي جمعية خيرية!
وينسى أن دار الساقي اللبنانية وغير دار الساقي لا يُمكن أن تُغامر بطباعة كتاب مُستفز لآل سعود, وتخسر كعكة آل سعود الدائمة, من أجل أن تسجل موقف نبيل أو تكسب مؤلف لم تسمع به, ثم ما هو المردود التجاري الذي يدفعها للإقدام على هكذا محاولة انتحارية؟
ومع هذا فقد راسلت دار الساقي في 2008 عدة مرات ولم اتلق منهم أي رد, وأتفهم موقفهم السلبي وصمتهم المُطبق, ولكن المُضحك هو ما صادفني حينما راسلت «دار قتيبة» قبل تلك الأحداث, وهي دار نشر سورية حول رغبتي في نشر كتابي في مؤسستهم مُبيناً وشارحاً لهم فحوى وطبيعة ذلك الكتاب التاريخي, كي لا يفاجئوا لاحقاً بعد أن يتم الاتفاق بمحتواه, وفوجئت أنهم يطلبون مني موافقة خطية من قبل الحكومة السعودية.
ولك أن تتخيل ضحالة تلك العقول التي تدير هكذا مؤسسات مُختصة بالنشر في عالمنا العربي. وعليه فلم يكن النشر متاح أو متيسر لمن هم في مثل وضعي, ولكني لم أيأس ومن خلال البحث والتقصي عبر شبكة الانترنت عثرت على عنوان لدار نشر مصرية واعدة «مؤسسة شمس للنشر والتوزيع» يملكها شاب مصري جريء وطموح يُدعى – إسلام شمس الدين – وهو كاتب وشاعر يمتهن النشر, والحقيقة لم يُبدي أي اعتراض على فحوى الكتاب ووافق على نشر الكتاب, وإن كان السعر مُكلفاً بالنسبة لي بسبب كبر حجم الكتاب, وحدث تأخير في اجراءات الطباعة لأسباب تقنية, وقد أبرمنا العقد في منتصف الشهر الرابع من عام 2012م, وقام باستخراج إجازة الفسح للكتاب, وكان الاتفاق يقضي بانتهاء عملية الطباعة والتوزيع خلال ثلاثة أشهر كما هو مذكور في العقد المٌبرم بيننا, ولكن بسبب كبر حجم الكتاب وحاجته للتجليد على هيئة (كارتون) طالت عملية الطباعة لمدة 6 أشهر, وتم عرض الكتاب إلكترونياً في الشهر العاشر - أكتوبر 2012 ثم صدر ورقيا في نوفمبر من نفس السنة, وسوق الكتاب إلكترونياً على موقع مكتبة النيل والفرات اللبنانية ومكتبة غرناطة, وكنت قد أعلنت في حينها على صفحتي في تويتر عن خبر صدور الكتاب.
وبعد كل تلك المُعاناة والمُثابرة وهذا التعب والصبر يأتيك من يقطف ثمار جهدك على الجاهز, وهو متكئ على كرسي مكتبه الفاره, ثم يتلذذ بفعلته دون أن يرف له جفن!
وعادة تختلط الأمور في هذا المجال ويضيع الحق في ذلك الزحام تحت مبرر توارد الخواطر وتلاقح الأفكار, ويجب أن نحسن الظن ولا تظلم دون بينه أو برهان, كما حدث مع كتاب "هكذا هزموا اليأس" للكاتبة سلوى العضيدان الذي سطى عليه د.عايض القرني فأصبح يحمل عنوان "لا تيأس".
على أية حال يبقى الحكم دائماً وأبداً للقارئ وللجمهور وهم من يقرروا ويحكموا في أحقيقة وملكية الأفكار.
وكنتُ قد نوهت في مقدمة كتابي عن حساسية آل سعود وآل الشيخ وخصوصاً سلمان بن عبد العزيز من مُسمى الوهابية أو الوهابيون, ومُحاولاتهم اليائسة لتغيير ذلك المٌسمى وشطبه من كُتب الرحالة الأجانب الذين دونوا مذكراتهم خلال القرنين الماضيين, وتبديل مًصطلح الوهابي أو الوهابيين إلى مُسمى مُستحدث وهو «السعوديين» أو في أحسن الأحوال إلى «الموحدين» وفعلاً قامت الدارة «دارة عبد العزيز» بقيادة جوقة السماري وبعض أفراد آل الشيخ, بحملة فلترة تاريخية شعواء على كثير من كتب الرحالة الأجانب وذلك من خلال استخدام مُترجمين ومُحققين قاموا بتغيير مُسميات الوهابية والوهابيون من عدة كُتب مٌترجمة إلى مُسميات بديلة كالسعوديين والموحدين وغيرها من مرادفات مُستحدثة.
وكنت أعلم جيداً حساسية تلك المُسميات على آل سعود وعلى سلمان بن عبد العزيز تحديداً, فهو يستفز وينفر من هذا الاسم وسبق وأن أجرى لقاء أو مُحاضرة يوصي فيها بعدم الترويج لهذا الاسم العدائي الذي يُراد به السوء, لهذا فقد كان عنوان كتابي يحمل في البدء اسماً تراثياً وهو (كشف المستور في تاريخ نجد المبتور) ولكني آثرت أن أجعل العنوان لافتاً وأكثر استفزازاً لزعيم الحارة أو "الدارة" سيان, فأبلغت الناشر أن يكون عنوان الكتاب الرئيس هو (الوهابية دين سعودي جديد) وأما العنوان الأصلي القديم فيكون رديفاً لهذا العنوان, ووافق الناشر مشكوراً, وحمل الاسمين معاً.
لهذا كنت أعرف تأثير ذلك الاسم وأدرك الحساسية وحالة التوجس منه خاصة من قبل الأتباع المُغيبين, فتعمدت الاستفزاز من خلال ذلك العنوان, وقد استغربت بعد مرور أربعة أشهر تقريبا عن صدور كتابي بصدور كتاب جديد لأستاذ سعودي في جامعة الملك سعود يُدعى – د. خالد الدخيل – ويحمل عنوان (الوهابية بين الشرك وتصدع القبيلة), والحقيقة أنني قد فوجئت من جراءة عنوان الكتاب, الذي قطعا سيثير الحفيظة في الداخل, مع أن الكتاب صدر في لبنان كما هو واضح من مقدمته, ولكن اختيار عنوان «الوهابية» ومن قبل استاذ سعودي موال لآل سعود أمر يجذب الانتباه!
وأذكر أن أستاذة أنثروبولوجيا الدين الدكتورة مضاوي الرشيد جزاها الله خير كانت قد أعلنت عن صدور كتابي في حينه على صفحتها في تويتر, كنوع من التشجيع والدعاية المجانية للكتاب, ثم بعدها بفترة, نوهت الدكتورة أيضاً أن الأستاذ السعودي د.خالد الدخيل أصدر كتاب دراسة عن نشوء الوهابية, ووضعت عنواناً للكتاب في التغريدة.
وقد علقت حينها على تغريدة الدكتورة بأن قلت : «بركاتك يا سبعاني», وكنت أعني بها طبعاً أن «تابو» مُسمى الوهابية قد كُسر في السعودية, فها هو أستاذ جامعي سعودي يختار اسم الوهابية عنواناً لكتابه.
ولم اتوقف حينها عند فحوى ذلك الكتاب, أولاً : لأنهُ كتاب جديد ومن انتاج كاتب سعودي تابع لمؤسسة التبرير والتدبيج السعودية, وثانياً : أنا أعيش في السويد والكتاب غير متوفر هنا, وعملية شرائه وشحنه تكلفني مبلغاً مضاعفاً, ولا أظن أن كاتباً خرج من رحم الجامعات السعودية الرسمية يستحق أن أتكبد مبلغ مالي أنا بأمس الحاجة له هنا, لكي أطلع على كيفية نفاحه عن آل سعود أو تبريره  لطوام الوهابية وهو المتوقع عادةً.
وخلال اليومين الماضيين وجدت أن الكتاب المذكور والخاص بالدكتور الذي سبق وأعلن عنه, معروضاً مجاناً في أحد المواقع الإلكترونية, وقد دفعني الفضول لقراءة ذلك الكتاب الوحيد الذي حمل اسم الوهابية ومن داخل المزرعة السعودية, فتسنَ لي أن أتصفحه بعد مرور عام كامل على تاريخ صدوره.
وما أن بدأت المقدمة والفصل الأول والثاني, حتى شعرت أنني اجتر كتابي المذكور وأقرأ كثير من أفكاري ولكنها مفككة وموزعة هنا وهناك كي لا تظهر مُترابطة في مكان واحد فتفضح صاحبها, حينها تذكرت بوح ذلك الشاعر العراقي الذي زار إيران لأول مرة وشاهد النخيل في بعض المدن الإيرانية, فقال ساخطاً : من سرق تلك النخلة من وطني؟
فسرقة الأفكار وتحويرها للأسف أصبحت موضة دارجة, إلا أن التحوير والتطوير مهما تفنن به صاحبه وحاول اخفاء المعالم فلن يستطيع أن يُشتت أو يخدع صاحب الفكرة الأصلية, لأنه لا يتوه ولا ينسى ما سطرته أنامله, ناهيك أن هناك دائماً أساس ثابت وهناك مرمم أو مطور, والحال هنا كمن يحاول تحوير خارطة بناء لأحد البيوت, فيقوم باستحداث أبواب وشبابيك جديدة وممرات داخل نفس هيكل البناء فينجح بتغيير الديكور لكنه لن يستطيع تغيير النسق العام لبُنية وركائز ذلك البناء, هو فقط يُحاول أن يُجدد المعالم لدى الزوار الغرباء أما صاحب البيت فيعرف دقائق الأمور في بيته ولا يمكن أن ينسى أو يخطئ في تعيين معالمه.
وما جاء في كتاب الدكتور خالد الدخيل أنا أعتبره لصوصية للأفكار تمت عن بعد وإن لم تكن سرقة حرفية للنص, وأراها محاولة فاشلة للتذاكي من خلال التوسع في فلسفة الفكرة لكي يتوه القارئ عن صاحب الفكرة الأصلية, وفي تلك الحالة كان يُمكن للكاتب أن يُحاكي كتاب غيره أو يرد على ما طُرح في ذلك الكتاب, شرط أن يذكر اسم الكتاب ثم يدحض ويفند الأفكار التي وردت فيه.
لأني أعلم جيداً أن هناك من سيقول أن مسألة توارد الخواطر والتشابه في الآراء تحدث كثيراً, وأن المصادر النجدية شحيحة أصلاً وهي تعد على الأصابع وقطعاً سيحصل تماهي في تناول تاريخ نجد أو الدعوة الوهابية تحديداً, وأن المؤلف ربما أراد تفنيد الأفكار والآراء التي جاءت في كتابك وغيرها من أعذار جاهزة.
ولهذا فأنا أولاً : أطالب المُهتمين بالتاريخ وأصحاب الخبرة في المُتشابهات بقراءة كتابي : (الوهابية دين سعودي جديد – كشف المستور في تاريخ نجد المبتور – صدر 2012 وللأسف لا يمكنني توفير الكتاب مجاناً للقراء, لأن هنالك حقوق ملكية للناشر, ولا يمكن خرقها وستنتهي تلك الحقوق العام القادم في نفس هذا التاريخ, وهذا عنوان الكتاب على مكتبة النيل والفرات :
ومن ثم عليهم ايضاً قراءة كتاب د. خالد الدخيل : (الوهابية بين الشرك وتصدع القبيلة) الذي صدر عام 2013, وهو متوفر أيضاً على الرابط مجاناً :
http://narjes-library.blogspot.se/2014/01/blog-post_8730.html
وأنا أقبل بحكم القارئ الحيادي المُنصف, مع التذكير على أن د.الدخيل ذكر في مُقدمة كتابه أن أصل الكتاب هو أطروحة دكتوراه باللغة الإنجليزية كان قد تقدم بها إلى جامعة كاليفورنيا في عام 1998م, وأنه قد أضاف حديثاً لتلك الأطروحة فصلين جديدين, هما الفصل الأول والثاني بالإضافة إلى مُقدمة وخاتمة جديدتين, كما جاء بالتنويه في هامش كتابه, حيث يقول :
«كان الكتاب في الأصل أطروحة دكتوراه من جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس (UCLA), نوقشت عام 1998م. وكان من المفترض أن تتحوّل إلى كتاب قبل هذا التاريخ وتظهر فيه, لكن الظروف لم تسمح بذلك. وعندما استقرّ الأمر على أن تكون كذلك, فقد رأيت أن يبقى النص الأصلي كما هو, مع بعض الإضافات التي تستدعيها ترجمة النص إلى العربية. إلى جانب ذلك رأيت ضرورة إضافة فصلين جديدين هما الأول والثاني, وإضافة صفحات قليلة إلى المُقدّمة وجعلها فصلاً مُستقلاً مع إعادة كتابة الخاتمة كفصل مُستقل أيضاً.». انتهى.
وأنا هنا لن أتطرق للأطروحة الأصلية لأنها قديمة كما يذكر الدكتور هو في المُقدمة, وأنها مُترجمة من اللغة الإنجليزية, وسأكتفي بالإضافات الجديدة التي يعترف الدكتور أنهُ قد أضافها حديثاً لكتابه, الفصل الأول والثاني والمقدمة والخاتمة, وهي صلب النقاش هنا.
كما ينوه الدكتور أن هنالك من ساعده وعاونه سواء بجلب الكُتب النجدية القديمة أو بالترجمة أو في الترتيب أو التصحيح ..الخ, ومن هؤلاء كان هنالك فريق من الشباب وصفهم الدكتور بالجنود المجهولون, ومن يدري ربما أحد أعضاء ذلك الفريق وقع في ذلك التوارد المُتعمد أو بالأحرى لصوصية الأفكار فورط الدكتور دون قصد, وقد يكون بسبب عامل السرعة في إصدار الكتاب فلم ينتبه الدخيل إلى ذلك التوارد الكبير في الأفكار.
علماً أن الدكتور ذكر أن : (كتابه هذا ليس في التاريخ وإنما عن التاريخ) كما يصفه, وبعيداً عن الخوض في الفلسفة والتصورات الخلدونية التي حاول الدكتور أن يفندها في رده على الحداثيين, وعن وجهة نظره في نشوء الوهابية وأمور أخرى, فإن ما يُهمني هنا التشابه والتماهي في سياق كثير من الأفكار بين الكتابين حتى ليظن القارئ أن هنالك عملية سطو قد تمت بحرفية.
وربما سيتطوع بعض المُريدين والمُنافحين ليُكرر القول : أنها مُجرد توارد للخواطر وتلاقح لأفكار عامة تحدث عادةً مع كثير من الكُتاب الذين يخوضون في نفس الموضوع ويعتمدون على تفس المصادر.
أقول لهم حسناً.
وأنا هنا أسعى لتثبيت حقوق النشر لا أكثر, كي لا يأتي أحد بعد عدة أعوام فيقول : لقد اطلعت على كتاب السبعاني الموسوم بـ(الوهابية دين سعودي جديد) فوجدته عبارة عن استنساخ واقتباس لكثير من أفكار د. خالد الدخيل في كتابه (الوهابية بين الشرك وتصدع القبيلة), ثم سأُتهم حينها بأنني قد سطوت على أفكار الدكتور ونسختها في كتاب آخر, وأنني لم أرجع للمصدر الأصلي وهو كتاب الدخيل, ساعتها ربما أكون في عداد الموتى فأعدم وسيلة الرد.
فوجب عليّ الرد والتنويه من الآن ولا بد من التوضيح أولاً بأن كتابي صدر قبل كتاب الدخيل بعدة شهور, وأن القاعدة المرورية القديمة تقول : إن الأسبقية لمن في الدوار, وسوف أورد بعض النصوص المُتشابهة من كتابي ثم أُتبع كل نص من تلك النصوص باقتباس من كتاب الدكتور الدخيل لنفس الموضوع, وأترك للقارئ المُحايد المُقارنة والحكم أيضاً.
في البداية سأتحدث عن الجهد الكبير الذي بذلته في قراءة وتدقيق طبعات كل من كتاب حسين بن غنام الموسوم بـ(روضة الأفكار والأفهام لمُرتاد حال الإمام وتعداد غزوات ذوي الإسلام), وأيضاً كتاب عثمان بن بشر الموسوم بـ(عنوان المجد في تاريخ نجد), بطبعاتها المُختلفة, الأمر الذي اضطرني إلى قراءة أكثر من نسخة لنفس الكتاب وليتخيل معي القارئ مقدار التعب والإرهاق الناتج عند التركيز في القراءة, وكذلك نوبات الملل التي تجتاح الباحث حينما يقرأ كل كتاب مرتين مُتتابعتين وأكثر من عدة طبعات وفي وقت مُتقارب, كل هذا بسبب التحقيق أو بالأحرى العبث والتحوير الذي قامت به "الدارة" السعودية في طبعاتها المُحرفة, لكي أقارن وأجد الاختلاف بين تلك النسخ المشوهة, وقد وضحت في مقدمة كتابي عن مُثابرتي في الإطلاع على جميع المصادر الخاصة بتاريخ نجد, حيث جاء في مقدمة الكتاب في الصفحة 42 :
« طبعاً عمليات التزوير والتحريف والطمس والبتر في كتاب ابن غنام وكتاب ابن بشر في الطبعات الحديثة للدارة, لا تُعد ولا تحصى وتحتاج لبحث كامل وكتاب خاص ليس هذا مجاله, ولكن القصد من إيرادي لبعض تلك الأمثلة هنا, كي أوضح للقارئ البسيط غير المُلم وأثبت للجميع مدى الضرر البالغ الذي ألحق بكتب التاريخ والمصادر الشحيحة بسبب ذلك الهوى والعبث السعودي والتحريف المُتعمد الذي مارسه ويُمارسه سلمان بن عبد العزيز وأتباعه فيما يُسمى بدارة عبد العزيز في الرياض.
ولهذا فقد كانت مُهمتي صعبة وعسيرة, وتحتاج لجهد كبير في مجال البحث والتنقيب والمُقارنة بين المصادر التاريخية وتتطلب مني تفرغاً تاماً واهتماماً أكثر مما لو كان البحث يتحدث عن الشأن السياسي المُعاصر, لذلك كُنت مُرغماً على البحث عن تلك المصادر والإطلاع وقراءة جميع المؤلفات التي تناولت تلك المرحلة, سواء كان الإطلاع على مؤلفات سخيفة لبعض المؤرخين والكُتاب السعوديين الرسميين أو قراءة بعض كُتب التاريخ لبعض المؤلفين العرب المُتزلفين, أو من خلال مُتابعة كل ما كتبه المؤرخين العرب والمُسلمين الأوائل, أو عن طريق قراءة كُتب الرحالة الأجانب والمُستشرقين الذين دونوا ملاحظاتهم عن تلك الفترة وبغض النظر عن توجهات وميول هؤلاء المدونين, سواء كان هؤلاء الكُتاب تابعين وموالين للوهابية أو مؤيدين بعض الشيء ومُتعاطفين مع تلك الحركة لأسبابهم ومصالحهم الخاصة, أو ربما كانوا من أشد الخصوم لها وممن تضرروا من قمعها وغطرستها, أو كانوا حياديين حتى.
ولغرض إثراء محتوى البحث وتوثيق الأحداث فقد قمت ولله الحمد بقراءة حوالي الـ 100 كتاب من كتب التاريخ المُتعلقة بأخبار نجد وشبه جزيرة العرب, وأطلعت على عدة مصادر تاريخية لها علاقة بمادة البحث, بعض تلك المراجع كُنتُ قد قرأتها في السابق, ولكن تطلب مني الأمر قراءتها من جديد كي استحضر الأحداث وأربطها مع بعضها البعض, ولذلك سوف يكون هذا البحث التاريخي بإذن الله تعالى على غير ما جرت عليه العادة, أو على عكس ما هو مُتعارف عليه ومتوقع دائماً من خلال المنشورات السعودية الرسمية حول دراسة تلك المرحلة الغابرة وتقييم الحركة الوهابية, فقد تعودنا من كَتبة آل سعود سواء كانوا من السعوديين المُتنطعين أو من بعض المُرتزقة العرب المُحابين, كثرة تدبيجهم وتزلفهم وتملقهم وإبداء مراسم الطاعة والولاء وطقوس الإشادة والتزكية والتقديس لمحمد بن عبد الوهاب وحركته الوهابية.».
وكنت أيضاً قد وضحت في مقدمة الكتاب عن تعدد الطبعات الخاصة بكتابي ابن غنام وابن بشر, وعن العبث والتحوير الذي مارسه المدعو ناصر الدين الأسد على سبيل المثال في كتاب حسين بن غنام الذي قام بتحقيقه زعماً, فمثلاً أذكر أنا في كتابي في الصفحة رقم 29 :
« وكانت الطبعة الأولى لمخطوطة حسين بن غنام قد طبعت في عام ١٣٣١هـ - ١٩٥١م بمدينة بومباي بالهند على صيغة كتاب, ولا يُعرف تحديداً من الذي قام بطباعة تلك النسخة من المخطوطة في الهند, هل هي الحكومة السعودية أم خصوم الوهابية من أجل أن يطلع الناس على مُعتقداتهم, وللأسف فإني لم أحصل على الطبعة الهندية القديمة. وأما الطبعة الثانية فقد طبعت في مطبعة البابي الحلبي بمصر سنة ١٣٦٨هـ وقد تم طباعتها على نفقة عبد المحسن بن عثمان أبابطين صاحب المكتبة الأهلية سابقا بمدينة الرياض, وقد ألحقها بالطبعة الثالثة في عام ١٣٨١هـ - ١٩٦١م بمطبعة المدني, وطبعة البابي الحلبي المصرية هي التي اعتمدتها في كتابي وبحثي هذا.». انتهى.
وكما هو مُبين فإني قد ذكرت أنني لم استطع الحصول على نسخة من الطبعة الهندية لكتاب حسين غنام, لكني حصلت على نسخة من طبعة البابي الحلبي المصرية المطبوعة أصلاً عن طبعة البابطين.
ثم يا للمصادفة فيبدو ان د.خالد الدخيل قد اهتم هو الآخر بالحصول على تلك النسخة الهندية, فنراه في مقدمته يشكر محمد آل الشيخ على امداده بتلك النسخة الهندية, بالقول :
« ولا يسعني هنا إلا أن أشكر الصديق محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ على تأمين نسخة مصورة من الطبعة الهندية لكتاب ابن غنام المذكور, وذلك عن طريق الشيخ عبد المحسن بن إبراهيم بن عبد الله آل الشيخ الذي تفضل بتقديم هذه النسخة, من هذه الطبعة المهمة. فله مني كل الشكر أيضاً, فقد استفدت منها, ورجعت إليها كثيراً في هذا الكتاب.». انتهى.
وكنت قد وضحت الاختلاف الواضح بين النسخ التي طُبعت في الخارج وبين طبعات الدارة السعودية, ونوهت في كتابي أن حسين ابن غنام لا يُعتبر مؤرخاً مُحايداً قط بل هو مُجرد كاتب أو ناسخ لوحي محمد بن عبد الوهاب, وأطلقت عليه تهكماً لقب "الحبر", وذكرت أن كتاب عثمان بن بشر يُعتبر أكثر قبولاً (نوعاً ما) من كتاب ابن غنام المليء بالسجع المُمل, الشبيه بسجع السديس في خطبه العصماء في التطبيل لولاة أموره, حيث ذكرت في كتابي ما نصه في صفحة 33 وصفحة 181 و 183 و 184 :
« وأحمد الله أنني مازلت أحتفظ بنسخ قديمة بعض الشيء من كتاب حسين بن غنام (تاريخ نجد), وكذلك كتاب عثمان بن بشر (عنوان المجد في تاريخ نجد), وإن كانت طبعات وليست مخطوطات أصلية, ولكنها أرحم بكثير من النسخ السعودية الحديثة, مما جعلني أكتشف بعض خيوط تلك اللعبة وأطلع على تفاصيل الخطة الخبيثة في عملية البتر والتشويه الشنيعة للمصادر التاريخية, فعندما قارنت بين نسخة الدارة السعودية الحديثة التي تكفل بطباعتها أمير الرياض سلمان بن عبد العزيز وحققها عبد الرحمن آل الشيخ, وبين النسخة القديمة منذ الخمسينيات الموجودة لدي [طبعة مكتبة الرياض الحديثة]؟ وجدت أن هنالك فرقاً كبيراً وبوناً شاسعاً بين النسختين, وأن هناك تشويهاً مُتعمداً قد تم وهنالك عبثاً واضحاً وجلياً قد حدث في نسخ الدارة السعودية لغاية في نفس سلمان وعبد الرحمن آل الشيخ, ويستطيع أي قارئ بسيط أن يكتشف ذلك التحريف والتشويه المفضوح من خلال مُقارنة ما جاء من أحداث ووقائع في النسختين معاً, وعموماً فكتاب حسين بن غنام وإن كان لا يصلح لأن يكون مرجعاً أو مصدراً تاريخياً مُحايداً, لأن صدوره تم وفق رغبة مُلحة من قبل محمد بن عبد الوهاب ليدافع عن نفسه, والكتاب هو بمثابة ترجمة شخصية لسيرة محمد بن عبد الوهاب, مع هذا تعرض ذلك الكتاب الوهابي الصرف للمسخ والحذف التحريف, وأما كتاب عثمان بن بشر فهو نوعاً ما (وأقول نوعاً ما) أفضل وأرحم بالمُقارنة مع كتاب حسين بن غنام, من ناحية النقل والترتيب, لأنهُ كان يروي أشياء كانت مقبولة في وقته, لكنها الآن أصبحت تُدين وتفضح مُقترفيها, كعمليات السلب والنهب والقتل على الشبهة وحرق النخيل وهدم البيوت وتخريب ودفن الآبار وأشياء أخرى سيأتي ذكرها تباعاً بين طيات هذا الكتاب, ولهذا فقد تعرض كتابه هو الآخر للتشويه والتحوير. ...الخ.
وربما ما جاء في كتاب المؤرخ الوهابي حسين بن غنام في كتابه – روضة الأفكار والأفهام لمُرتاد حال الإمام وتعداد غزوات ذوي الإسلام – لفيه تأكيد جلي لما كان يُكابده محمد بن عبد الوهاب من مشاعر الغضب والعصبية لمنطقة نجد دون أن يشعر, حيث كان حسين بن غنام الذي عاصر محمد بن عبد الوهاب, من أشد أتباعه وأكثرهم تأييداً لدعوته, بل أن محمد بن عبد الوهاب هو من طلب منه شخصياً أن يوثق تلك الأحداث كي تكون مرجعاً للطائفة الوهابية فيما بعد, وبعد أن أسهب ابن غنام في سرد ممارسات من سماهم "المُشركين العرب" طبعاً كان بإيحاء وتقرير من قبل محمد بن عبد الوهاب, حيث لم يترك قوم في أي مكان أو بقعة من بلاد العرب إلا وطعنهم في دينهم وذكر فيهم مثلبة وألصق بهم تهمة الشرك أو الهرطقة, لكي يُبرر استباحة الدماء وسلب المال وهتك الأعراض. الخ.
وبالمناسبة فأن كتاب حسين بن غنام الأصلي قد وردت فيه أخطاء عديدة في إيراد الأحاديث والآيات القرآنية, مما دفع حفيد محمد بن عبد الوهاب, المدعو عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ, لأن يقوم بتصحيح وتهذيب وتشذيب وطباعة كتاب ابن غنام كي يكون في المستوى المطلوب الذي يؤهل لقراءته وقد أطلق عليه اسم (تاريخ نجد) لأن المخطوطة الأصلية كانت مليئة بالأخطاء والحشو بأسلوب السجع المُمل والمنفر للقارئ. الخ.
ومعروف أن محمد بن عبد الوهاب هو من طلب شخصياً من حسين بن غنام تدوين ذلك الكتاب المسجوع, أي أن الكتاب قد دون بلغة أهل ذلك الزمان, حيث جاء على لسان ابن غنام في كتابه قائلاً : « ولما كانت منزلة العلم أعلى المنازل, والتحلي بِحُلاه من أفخم الفضائل, لاسيما للأفاضل والأماثل, ومرتبته أرفع المراتب عند الأواخر والأوائل ... أردت أن أصنف ما أشرق ضياؤه وأنتشر, وشاع في غالب الأقطار وأشتهر من الغزوات التي هي في مُحيا الدهر كالغُرر, والفتوحات الإسلامية التي مبدؤها العقد السادس من القرن الثاني عشر. فرأيت العوم في تياره خطيراً, وركوب زاخر أمواجه حظيراً, وتحققتهُ أمراً عسيراً, والإمام أيدهُ الله تعالى يَعزم عليّ في ذلك ويُشير, فشرعتُ فيه حتى أتقنتهُ تصحيحاً وتحريراً, وتلقنتُ تلك المغازي ممن حوى الصدق في الصدق رياسة وتصديراً.».
لذلك أراد محمد بن عبد الوهاب أن يجعل من حسين بن غنائم حوارياً له وكاتباً لوحيه, ومدوناً لسيرته ومسيرته, وبنفس الوقت أراد منه التهوين من خصومه والطعن فيهم وتشويه سمعتهم كما حصل في حالة الأمير عثمان بن معمر, الذي انشغل حسين بن غنام بتشويه سمعته واتهامه بالخيانة العظمى ومن ثم تبرير قتله وهو يُصلي الجمعة في مسجد العيينة.». انتهى.
وبالمقابل ينوه الدخيل عن تلك العلاقة الوثيقة التي ربطت بين محمد بن عبد الوهاب مع تلميذه حسين بن غنام, فيقول في صفحة 63 و 64 و 66 و 67 و 68 :
« بعض الإشارات الواردة في المقدّمة التي كتبها ابن غنام توحي أن مبدأ فكرة كتابه ربما تعود إلى الشيخ نفسه, وأنه, بعد اتفاقهما على ذلك, كان للشيخ دور في عملية تأليف الكتاب وربما في اختيار موضوعاته؛ حيث يذكر ابن غنام أن الشيخ كان "يعزم عليه" للشروع في التأليف "من دون تأخير", مما يعني في الغالب, أن الشيخ هو الذي طلب من ابن غنام تسجيل تاريخ الدعوة. وبالتالي؛ من الطبيعي أن يلحّ على ابن غنام بالإسراع في تنفيذ المهمة. الخ.
من المهمّ الإشارة, هنا, إلى أن كتاب ابن غنام تطغى عليه الموضوعات العقدية, ولغته لغة دينية مسجوعة, ولذلك فهو كما أشرت, كتاب تاريخ للدعوة وليس تاريخاً للدولة تماماً. الخ. النتيجة الثانية؛ أن دور الشيخ, على الأرجح, لم يقتصر فقط على دفع ابن غنام وتشجيعه على الشروع في تأليف تاريخه, بل ربما تجاوز ذلك إلى نوع من الإشراف على هذه العملية, ومن هذه الزاوية, دخلت الاعتبارات التي تخصّ الشيخ بحكم موقعه السياسي والديني في خيارات المؤلف. الخ.
فالاحتمال الأول؛ أن الشيخ بحكم علاقته بابن غنام, وباعتبار أنه كان أحد أهم المصادر التي اعتمد عليها في تاريخه, لم يذكر له هذا الشرط؛ لسبب كان يراه وجيهاً. .. الخ.
صحيح أن ابن غنام كان أقرب للحدث من ابن بشر, بحكم مُعاصرته للشيخ وأنه كان أحد تلاميذه, وكتب تاريخه بتشجيع من الشيخ نفسه وربما تحت إشرافه وبالتالي؛ من المفترض أن تكون روايته للأحداث أكثر دقة من رواية ابن بشر. الخ.
ثم إن قرب ابن غنام من الحدث, وعلاقته المتينة بالشيخ ربما لم تكن, كما يبدو, مُفيدة له بالنسبة إلى هذا الموضوع تحديداً. وعلى العكس ربما شكلت نوعاً من القيد على ابن غنام نظراً للاعتبارات السياسية المُرتبطة بظروف الشيخ. الخ.
وابن غنام كما ذكرنا, كان أحد تلاميذ الشيخ المقربين. ولا شك في أن الطبيعة السياسية لكلا اللقائين وما دار فيهما من اتفاقات وشروط, جعل موضوع لقاء الدرعية ذا حساسية سياسية في الثقافة النجدية حينها.». انتهى.
ويُلاحظ ايضاً أن خالد الدخيل بدأ يُمايز بين ابن غنام وابن بشر, فيصنف الأول على أنهُ مؤرخ للدعوة الوهابية, ويُصنف الآخر على أنهُ مؤرخ "الدولة" ولا أدري أي دولة! وهل يُمكن اطلاق مُسمى الدولة على عصابة قطاع طرق, ولا أعرف ما هو تفسير الدخيل لمفهوم الدولة؟ ألم يكن من الأصوب والأقرب للواقع هو تصنيفهم كإمارة قصية منعزلة في قلب الصحراء امتهنت السلب والنهب وقطع الطريق, عموما هذا ليس محور الموضوع, ما يُهمني هنا هو محاولة تأكيد فكرتي من ابن غنام كان مُجرد مدون لسيرة محمد بن عبد الوهاب, وأن ابن بشر مؤرخ كان أكثر قبولاً واستساغة للقارئ في رواياته من ابن غنام السجعية, وقد ذكرت ذلك في كتابي, فخصص الدخيل فصل لاختلاف بين رواية ابن غنام وابن بشر, وإن حصرها هو في رواية "اتفاق الدرعية", وسآتي على الشراكة السياسية بين محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود لاحقا, فيذكر الدخيل عن الفرق بين ابن غنام وابن بشر في صفحة 60 :
« وكما سيتضح لاحقاً, عند الاقتراب أكثر من نصّ كل من ابن غنام وابن بشر, نجد الكثير مما يُميز أحدهما عن الآخر. فما كتبه ابن غنام, كان تاريخاً للدعوة أكثر منه تاريخاً للدولة. أما تاريح ابن بشر فهو على العكس من ذلك. من حيث إنه تاريخ للدولة وليس للدعوة. وهذا الاختلاف العام بينهما هو المصدر الأساس للاختلافات ألأخرى, بما في ذلك الاختلاف حول الشرط الثاني. الأسوأ كما أشير, أن الاختلاف يطال النسخ المطبوعة والمُختلفة لتاريخ كل منهما على حدة, وبشكل خاص تاريخ ابن غنام. ولم ينتبه الدارسون كما يبدو, إلى أهمية هذا الاختلاف, وبالتالي؛ لم يأخذ حقه من الاهتمام.». انتهى.
لاحظ هنا أن الدكتور الدخيل يؤكد في النص أعلاه أن هناك اختلافات حدثت في النسخ المطبوعة وخاصة كتاب حسين بن غنام, ثم يقول : لم ينتبه لها الدراسون! طبعا باستثناء الدكتور وحده الذي اكتشفها فجأة من خلال تقصيه وقراءته الدءوبة لجميع تلك النسخ, فعرف أن هنالك فروقاً واختلافات بين فحوى تلك النسخ.
وأعلم أن هناك من سيقول ولم لا؟
فقطعا الدكتور قد اطلع على تلك النسخ ودققها ووجد فيها فروقات فذكرها في كتابه, خاصة في مسألة الاتفاق الذي تم في الدرعية بين محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود.
وأنا هنا لا أشكك في أنه قد اطلع على نسخ ابن غنام وابن بشر وعمل مقارنة, ولكن متى حدث ذلك؟ هذا هو السؤال.
قطعاً بعد أن اطلع على ما قمت به من جهد مرير وقراءة مُرهقة ومقارنة بين النصوص, حيث أوردت بعض المُقارنات النصية في كتابي, بين ما جاء في نسخة الدارة المُشذبة لابن بشر وبين طبعة مكتبة الرياض الحديثة, وأيضاً بين كتاب ابن غنام نسخة البابي الحلبي, وبين نسخة ناصر الدين الأسد, ثم بعدها بدأ يُفلسف موضوع الاختلاف في رواية مُحددة بين ابن غنام وابن بشر.
وهذا يسمى سطو على الجهد المبذول, إذا لم يذكر الباحث دور وعمل من سبقه, وخاصة الجهد المُضني الذي بذلته في القراءة والمقارنة واكتشاف الاختلافات بين النسخ المذكورة.
ثم تحدثت في كتابي عن ناصر الدين الأسد (كنت أظنه سوري فاتضح أنه أردني) وهو الذي قام بتحقيق النسخة الاصلية من مخطوطة ابن غنام, بتكليف من قبل عبد العزيز بن محمد آل الشيخ حيث قام بتحوير تلك النسخة حسب رغبة وهوى من كلفه, وبينت ذلك العبث من خلال أمثلة مُختارة كي لا يخرج الكتاب عن مساره, فجاء في كتابي بالصفحة 28 و 29 و 31 :
« فقد عبثوا بالكثير من الكتب التاريخية وخصوصاً ما قاموا به من حذف وبتر بعض ما جاء في الأخبار الواردة في الكتابين التاريخيين الذين دونهما المؤرخين النجديين حسين بن غنام وعثمان بن بشر, واللذان حملا اسم تاريخ نجد بطريقة أو بأخرى, علماً أن كلا المؤلفين هما وهابييّن حتى النخاع, بل إن حسين بن غنام لا يُعتبر مؤرخاً مُنصفاً, لأن كتابه المذكور كان قد دونه بأمر ورغبة مُلحة من قبل محمد بن عبد الوهاب شخصياً, كما إن كتابه المذكور لم يكن تاريخياً بالمعنى الأكاديمي, بل كان ترجمة وسجع لمآثر وسيرة محمد بن عبد الوهاب الشخصية, وهو عبارة عن سرد وذكر لبعض مواقفه والمعارك التي خاضها أتباعه, ومع هذا لم تسلم المخطوطة الأصلية من كتاب حسين بن غنام من العبث والتشويه السعودي المُعاصر, فقد طال الكتاب الكثير من التحريف والتزوير والبتر. فالنسخة الأصلية وكما هو معروف كانت بعنوان : (روضة الأفكار والأفهام لمُرتاد حال الإمام وتعداد غزوات ذوي الإسلام) فاستعانوا بكاتب عربي "سوري" يُدعى الدكتور ناصر الدين الأسد, لكي يُعيدوا ما دونه ابن غنام, وقام هذا المؤرخ المُستأجر بمشاركة عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ بمسخ وليس نسخ كتاب حسين بن غنام, حيث قاموا بطمس وتحوير وتشذيب هذا الكتاب الوهابي الصرف فشوهاه بحجة الترجمة والتحقيق, ومن ثم أطلقا عليه اسم جديد وهو (تاريخ نجد للشيخ الإمام حسين بن غنام), وقد حذفوا منه الكثير من الأخبار والرسائل والغوا المُصطلحات الوهابية الصرفة, وأضافوا له أيضاً العديد من المعلومات والآراء, حتى يُخيل للقارئ أن هذا الكتاب يتحدث عن العصر الحديث ويُناقش إشكالات الوهابية المُعاصرة! وكان بإمكان ناصر الدين الأسد لو كان فعلاً حريصاً على المصداقية العلمية والنزاهة الأكاديمية, أن يضع الأخبار والنصوص الأصلية التي ذكرها حسين بن غنام في كتابه وإن كانت على طريقة السجع المُمل, ثم يضع تحت كل نص اختصار أو توضيح مُبسط لما جاء في ذلك النص الأصلي, وبهذا يكون قد ترك للقارئ الخيار في الإطلاع, فإن أراد قراءة النص الأصلي الذي دونه ابن غنام بنفسه سيجده, وإذا استعصى عليه فهم أسلوب ابن غنام في ذكر الأخبار والحوادث سجعاً, فيمكنه قراءة النص المبسط الذي كتبه ناصر الدين الأسد, لكن ما حصل هو تشويه ومسخ مُتعمد لكتاب حسين بن غنام, والهدف من ذلك المسخ والتحريف والتشذيب الذي لا يُخفى على كل لبيب.. الخ.
ويبدو أن عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ وصديقه ناصر الدين الأسد أرادا أيضاً حذف العبارات السوقية المُبتذلة التي كان ينعت بها حسين بن غنام خصوم محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود وأبنائه, ولهذا سعيا معاً لتهذيب أسلوبه المُنحدر في شتم وقذف الأعداء, إضافة إلى التخلص من أسلوب السجع المُمل الذي كان يستخدمه ابن غنام خصوصاً حينما ينساق مُتملقاً في تدبيج المديح فيخرج عن صلب الموضوع, وينشغل في ترتيب قافية السجع حتى ولو لم تكن موافقة لقواعد اللغة العربية.». انتهى.
ولاحظ هنا كيف بدأ الدخيل يُقارن بين الطبعات وينتقد بلطف المدعو ناصر الدين الأسد حينما تجاوز مهمة تحقيق مخطوطة ابن غنام فقام بتحرير النص المسجوع, كما ذكرت أنا أعلاه في كتابي, فيقول في كتابه بصفحة 48 و 60 :
« والذي يبدو من نص الشرطين في نسخة الأسد أنه ترجمة للشرطين نفسيهما كما وردا في رواية ابن بشر وليس في رواية ابن غنام. وتحديداً فإن نصّ الشرطين كما هما في نسخة الأسد موجود حرفياً في طبعة مكتبة الرياض الحديثة لتاريخ ابن بشر, وهي طبعة غير محققة وأقدم من طبعة الدارة المحققة. الأمر الذي يوحي بأن الشرط الثاني, كما هو في نسخة الأسد, مأخوذ من طبعة مكتبة الرياض الحديثة لتاريخ ابن بشر, وأنه بذلك أضيف إلى تاريخ ابن غنام. وبحسب ما جاء في نسخة الأسد أيضاً يكون الشيخ قد عرض دعوته على أمير الدرعية, بالطريقة نفسها التي عرضها على أمير العيينة كما وردت لدى ابن بشر تماماً. هل هذا حقا ما حصل؟ بحسب المعطيات المتوافرة وكما عرضناها يبدو أن هذا ما حصل بالفعل. إلا أننا لا نعرف كيف, ولماذا حصل على هذا النحو وهو أمر مُحيّر ومُثير للاستغراب, خاصة أن مُحقق النسخة, وهو الدكتور ناصر الدين الأسد, مشهود له في الأوساط العلمية بالأمانة والحرص على التدقيق والتمحيص في أبحاثه. الخ.
ربما يعود الاختلاف إلى أنّ تاريخ ابن غنام لم يظهر حتى الآن, وبعد مرور ما يقرب من مئتي سنة على تأليفه في نسخة محقّقة تحقيقاً علمياً تمثل مرجعاً موثوقاً, ويمكن الاطمئنان إليه بالنسبة إلى الباحثين والمؤرخين. وهذا عكس ما حصل لتاريخ ابن بشر, حيث توافرت له أخيراً نسخة محققة ومطبوعة وتعتبر حالياً, أفضل مرجع لهذا التاريخ, خاصة وأنّ "دارة الملك عبد العزيز" المؤسسة المعنية رسمياً بتاريخ الدولة السعودي هي التي نشرت هذه النسخة. أما تاريخ ابن غنام فلا يزال مُبعثراً بين نسخ مطبوعة كثيرة تختلف في ما بينها. كل منها مجرد نسخة مطبوعة من دون تحقيق لإحدى مخطوطات كتاب ابن غنام المنسوخة عن المخطوطة الأصلية. هذا ما عدا النسخة التي حقهها ناصر الدين الأسد. لكن وكما أشرت فإن الأسد لم يقف عند حدّ التحقيق, بل تجاوزه إلى أنه قام بإعادة تحرير نص ابن غنام وأعاد صياغته ليخلصه من أسلوب السجع المُتكلف والمُمل وأعاد ترتيب أبوابه مما جعله نصاً أكثر مقروئية بالنسبة إلى القارئ المُعاصر كما يقول. وقد تبعثر تاريخ ابن غنام بهذا الشكل.». انتهى.
ثم يتطرق خالد الدخيل للاختلاف فيما جاء بين كتاب ابن غنام وابن بشر في مسألة "اتفاق الدرعية", ويُعرج على مسألة كثرة الطبعات والخلاف بين محتوى بعض تلك النسخ فيقول في الصفحة 46 :
« وقبل مواصلة الحديث عن الشروط التي سبقت اتفاق الدرعية, وأهميتها, نحتاج أولاً إلى إجلاء الصورة اختلاف روايتي ابن غنام وابن بشر حول المسألة بشيء من التفصيل. وذلك لأن روايتي هذين المؤرخين معاً هما أهم مصدرين أوليين. وأول ما نلاحظه مُباشرة, في هذا الموضوع, أن اختلاف هذين المؤرخين حول عدد شروط اتفاق الدرعية ومضمونها يأتي أحياناً, تبعاً لاختلاف النسخة المطبوعة لتاريخ كل منهما. ومن ثم قد يبدو الأمر وكأن الاختلاف بينهما ليس أصيلاً, أو لا وجود له في النسخ الأصلية لتاريخ كل منهما, وهذا ليس صحيحاً. مثلاً لا يرد ذكر للشرط الثاني في النسخة المطبوعة في القاهرة من تاريخ ابن غنام, أو ما تعرف بين المُهتمين بطبعة "البابطين". كما إن هذا الشرط لا يرد أيضاً في الطبعة الهندية. كذلك تخلو المخطوطات المتوافرة من تاريخ ابن غنام من أي ذكر للشرط الثاني, بما في ذلك المخطوطتان اللتان اعتمد عليهما ناصر الدين الأسد, في النسخة التي حققها وأعاد تحريرها لكتاب ابن غنام.». انتهى.
ثم نأتي لمسألة تفسير اللقاء أو التحالف الذي تم بين محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود, فأنا وضحت بجلاء في كتابي أن ذلك الاتفاق أو الحلف الذي تم بينهما كان تحالفاً سياسياً وشراكة مصلحية بحتة والدعوة الدينية كانت مُجرد غطاء أو قناع لا أكثر, وهذا يعني اسقاط لحجة أو دعوى الشرك في نجد التي رفع رايتها ابن عبد الوهاب وتبردعها آل سعود, وأوردت ما جاء ببعض المصادر. وسنرى الدكتور الدخيل وعلى غير عادة الكُتاب في السعودية يوافق على ذلك الرأي, ويرى أن اتفاق الدرعية كان تحالفا سياسيا دينياً مزدوجاً, وأن الاتفاق يحمل رؤية سياسية مستقبلية بين الطرفين, وأن دعوة ابن عبد الوهاب لم تكن مجرد دعوة دينية بل مشروع سياسي يرتكز على أساس ديني, وهو نفس ما جاء في كتابي إلا أنه قام بفلسفته فقط بالقول أنه كان حلف ديني – سياسي.
سيأتيك طبعاً من يقول : وما الجديد في ذلك؟ حتى بسطاء الناس يعرفون ذلك ويرددون تلك الفكرة, وهم يرددون تلك الأقاويل في مجالسهم الخاصة.
أقول : نعم إن كان الغرض هو مُجرد حكايا عابرة وكلام مجالس, فلا بأس, لأن الكل يستطيع أن يروي ما يشاء من الأقاويل وسرد المُغامرات, ولكن القارئ يُريد دلائل وأخبار تستند على مصادر تاريخية قديمة, وهذا ما قمت به أنا, حيث جمعت وأوردت نصوص تاريخية من مصادر مُختلفة تؤكد وجهة نظري ومُعمداً رأيي بالدلائل والبراهين وليس مُجرد ثرثرة مجالس عابرة.
وقد أوردت نصوص ابن غنام وابن بشر وحسن جمال الريكي, وأيضاً ما رواه جان ريمون وغيره, ثم بينت وأرفقت تلك الأخبار من مصادرها للقارئ كي يعرف بأن كلامي ليس مُجرد ادعاءات عابرة, وما فعله الدخيل هو اجترار تلك النصوص التي أرفقتها في كتابي ليُكرر نفس الفكرة ويُبرر رأيه في ذلك التحالف السياسي, وسأرفق بعض النصوص من كتابي ثم أقارنها بنصوص من كتاب الدخيل, فقد أوردت بكتابي في الصفحات رقم 290 و295 في باب (تقاسم الغنيمة بين محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود) ما يلي :
« فلم ييأس محمد بن عبد الوهاب حينما تخلى عنه الأمير عثمان بن معمر, فذهب إلى الدرعية يبحث له عنه حليف نافذ جديد, يُحقق به أهدافه ويرسخ به مشروعه الشخصي, لقد كان محمد بن عبد الوهاب في الحقيقة يبحث عن مجد شخصي من خلال تحقيق مشروع ديني خاص به يصله إلى سدة القرار الديني, حيث كان يطمح بالوصول إلى نتائجه عن طريق أداة عسكرية ضاربة أو وسيلة سياسية ناجعة يسخرها لصالحه, ولا ضير من أن يمنح تلك الوسيلة المُساعدة أو الأداة الظرفية بعض الشراكة الصورية.. الخ. وقد نجح محمد بن عبد الوهاب فيما بعد مرحلياً في تحقيق ذلك الهدف السياسي - الديني, ولكن تشاء الظروف أن يستحوذ ذلك الشريك الطارئ أو الطرف الثاني على جل المشروع الوهابي فيما بعد, وتحول أبناء وأحفاد محمد بن عبد الوهاب إلى موظفين وأتباع مُسيرين مهمتهم الرئيسية أن يضفوا الشرعية على حكم ذلك الشريك الطامح الذي احتكر الدين والدنيا.». انتهى.
ويتكرر التشابه في التحليل هنا أيضاً, حيث يورد الدخيل أن محمد بن عبد الوهاب كان بحاجة ماسة إلى دعم من قبل طرف قوي ليحقق أهدافه, وكان على استعداد للتسليم له بالحكم وتوريثه لأبنائه من بعده, حيث يذكر في الصفحة 144 و 146 :
« كان الشيخ مقتنعاً منذ البداية, وهذا أمر لافت, بأن حركته في حاجة إلى دعم أحد أمراء المدن المُستقلة الكبار, وأن رئاسة الدولة, إذا قدر لها أن تقوم, هي حق لهذا الأمير ولذريته من بعده, عندما نأخذ هذه المُعطيات كلها مُجتمعة, فإنها تؤكد أولاً أن الوهابية لم تكن دعوة دينية فحسب. الخ.
كان من الواضح أن الوهابية لم تكن لتكتفي بإزالة قبر زيد بن الخطاب في الجبيلة أو اقتلاع شجرة في العيينة. هذه حركة كانت تتجه نحو تغيير الخريطة السياسية للجزيرة. هل كان محمد بن سعود مُدركاً لذلك؟ لا نعرف, لكن تحالفه مع الشيخ أثبت أنه أنجح استثمار سياسي حققه في حياته وحياة أسرته.». انتهى.
أما اللقاء الذي جمع بين محمد بن عبد الوهاب وشريكه محمد بن سعود في الدرعية بعد مُغادرته العيينة, فقد تناولته بإسهاب في الكتاب, وأوردت الروايات المُتعلقة بهذا الشأن, فبالإضافة لرواية ابن بشر فهناك رواية مهمة أيضاً وهي رواية حسن جمال الريكي صاحب كتاب – لمع الشهاب في سيرة محمد بن عبد الوهاب –, التي ذكر فيها الوعد الذي قطعه ابن عبد الوهاب لابن سعود بقوله (الرياسة والإمامة فيك وفي ذريتك بعدك وأن المشيخة والخلافة في الدين فيّ وفي آلي من بعدي), ووضحت أن تلك الشراكة كانت دنيوية وليست دينية على الإطلاق, وذكرت أن التفاهم أو الاشتراط الذي تم والذي ذكره المؤرخين يدل على أن ما تم هو قسمة سياسية وليس دعوة ربانية, لأن الدعوة لله لا تحتاج إلى عقد اتفاق دنيوي يوزع المناصب بين الشركاء ويعد الشريك بالغنائم المتوخاة من وراء تلك الدعوة.
وقد تبنى الدخيل تلك المسألة أيضاً وحاول أن يثبت أن اللقاء الذي تم بين محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود هو لقاء سياسي – ديني أدى إلى تحالف صاحب السلطة مع شيخ الدين, مُستعيناً بنفس الأمثلة التي أوردتها في كتابي, وإن كان قد ركز على مسألة اختلاف الروايات بين رواية ابن غنام وابن بشر, وتجاهل عن عمد أهمية رواية "الريكي" وحاول أن يُقلل من شأن كتابه, فذكره ولكن لم يورد الشرط الذي جاء في كتابه أو القسمة الضيزى التي تمت بين الطرفين والتي ذكرها الريكي بوضوح؟
ربما لم يرغب بالاستفزاز أكثر لأصحاب الرأي القائل بأن دعوة ابن عبد الوهاب وابن سعود كانت دعوة خالصة لوجه الله, فقد جاء في كتابي بالصفحة 307 و 308 و 309 ما نصه :
« ونعود هنا لبداية محمد بن عبد الوهاب حينما غادر العيينة في عام (1157هـ/1744م) وهو خائف يترقب, قاصداً الدرعية بعد أن فشل في تسويق دينه الجديد في العيينة, ليحل ضيفاً على أحد سكان الدرعية ويُدعى محمد بن سويلم العريني السبيعي, وقد شعر العريني في بداية الأمر بالضيق والخوف كون هذا المطوع مُثير للقلاقل والفتن وأصبح مشهور بتكفيره للناس وبات رأسه مطلوب لحاكم الأحساء القوي المُتنفذ, وخشي العريني أن يعرف محمد بن سعود عن وجوده فيؤذيه ويحمله المسؤولية, فأخفى أمر وجوده في منزله وبقي محمد بن عبد الوهاب مُختبئاً في بيت العريني, حتى شاع خبر وجوده في الدرعية واضطر محمد العريني وشقيقه وابن عمه حمد بن سويلم، وبعض جماعته أن يذهبوا لشقيق محمد بن سعود الضرير المدعو ثنيان, وكذلك أرسلوا نسائهم يسترحمن زوجة محمد سعود المُتنفذة المدعوة بـ (موضي بنت سلطان بنت وهطان الكثيرية) والتي كانت تُدعى بـ موضي بنت ابن وهطان, والتي عرفت بالذكاء والدهاء والحنكة ليطلبوا منها الآمان وبنفس الوقت يطرحوا عليها فكرة تبني محمد بن عبد الوهاب وجعله مطوع الدرعية الخاص, ويبدو أن الدرعية في تلك الفترة لم يكن فيها شيخ مُعتبر. فأشارت على زوجها ابن سعود بذلك الأمر وقالت : « إنَّ هذا الرجل ساقه الله إليك، وهـو غنيمة، فاغتنم ما خصّك الله به.»، فقبل قولها.
ونلاحظ هنا أن تلك المرأة الماكرة تصرفت بعقلية السياسي المُحنك فنصحت زوجها أن يغتنم تلك الفرصة الذهبية, ويستغل هذا المطوع الهارب في توسيع رقعة نفوذه, وهو في النهاية لن يخسر شيء, بل وأشارت عليه أن يذهب إليه بنفسه ويُقابل هذا المطوع الفار, كي يعطيه نوع الاحترام والتقدير حتى يقدسه الناس حينما يرون أميرهم يذهب إليه بنفسه. حيث يذكر المؤرخ عثمان بن بشر: « فأراد أن يرسل إليه من يُحضره, فقالت له زوجته : سر إليه برجلك إلى مكانه, واظهر تعظيمه والاحتفاء به, لعل الناس أن يكرموه ويعظموه, فسار إليه, فدخل عليه في بيت ابن سويلم ورحب به, وقال : ابشر ببلاد خيراً من بلاد وابشر بالعز والمنعة, فقال الشيخ : وأنا أبشرك بالعز والتمكين.». ..الخ.
ويظهر هنا جلياً على الأقل من خلال ذلك الحوار البسيط الذي نقله ابن بشر إلينا, عن ذلك النقاش الذي دار بين محمد بن سعود وزوجته موضي, يتضح من خلاله أن القضية كانت قضية سلطة وطموح ومصالح خالصة, وليس قضية دين وعقيدة أو توحيد مزعوم, وأن موضي كانت ذات عقلية فذة ولديها بُعد نظر سياسي وبراغماتي, وتفكر بعقلية الربح والخسارة, ولهذا أقنعت زوجها بضم ذلك الطريد محمد بن عبد الوهاب تحت جناحه, ثم أمرته أن يذهب إليه بنفسه بعد أن هم بإرسال الخدم لإحضاره كما يُحضر المطلوبين, وشرحت له الحكمة من وراء ذهابه بنفسه واستقباله, وذلك لغرض صنع نوع من الهالة والتبجيل المُصطنع لمحمد بن عبد الوهاب, حتى يهابه أهل الدرعية المنفرين منه, فيستمعوا له وينصتوا لما يقوله, ولا يخالفوه ويبجلوه ويطيعوه عندما يروا أن أميرهم يذهب إليه بنفسه, لقد كانت تلك المرأة الكثيرية زوجة محمد بن سعود داهية عصرها وتفقه في السياسة أكثر من زوجها الأمير المتواضع القدرات, لذلك كان لها دور كبير في صنع إمارة آل سعود الأولى أو التي يسمونها بـ"دولة آل سعود", بالرغم من أنها لا ترقى لمصافي الدول.
ويذكر المؤرخ النجدي عثمان بن بشر عن ذلك اللقاء الشهير في كتابه المذكور, فيقول ابن بشر في كتابه عنوان المجد, طبعاً بعد الإسهاب في تدوين مرافعة محمد بن عبد الوهاب أمام سيده وحاميه الجديد محمد بن سعود, ومحاولة شرح عما كان عليه أهالي نجد من الشرك بالله والبدع ووو.. الخ, حيث يذكر ابن بشر نص الرد الذي قاله محمد بن سعود لمحمد بن عبد الوهاب وجاء فيه :
« وابشر بالنصرة لك ولما أمرت به والجهاد لمن خالف التوحيد, ولكن أريد أن أشترط عليك اثنين؟ نحن إذا قمنا في نصرتك والجهاد في سبيل الله وفتح الله لنا ولك البلدان أخاف أن ترحل عنا وتستبدل بنا غيرنا. والثانية إن لي على أهل الدرعية قانوناً آخذه منهم وقت الثمار, وأخاف أن تقول لا تأخذ منهم شيئاً؟ فقال محمد بن عبد الوهاب له : أما الأولى فابسط يدك الدم بالدم والهدم بالهدم, وأما الثانية فلعل الله أن يفتح عليك الفتوحات فيعوضك الله من الغنائم ما هو خير منها.».
بينما يذكر حسن جمال بن أحمد الريكي مؤلف كتاب – لمع الشهاب في سيرة محمد بن عبد الوهاب – والذي كتبه ودونه في عام 1818م الموافق 1233هـ, النص الآتي : فسمع محمد بن سعود بورود محمد بن عبد الوهاب وكان قبل هذا قد سمع بصيته وإظهاره مذهباً جديداً فجاء إليه فصافحه وقال : هذه القرية قريتك والمكان أنت واليه, فلا تخشى أعداءك والله لو انطبقت علينا جميع نجد ما أخرجناك عنا. فقال محمد بن عبد الوهاب : "أنت كبيرهم وشريفهم, أريد منك عهداً على أنك تجاهد في هذا الدين والرياسة والإمامة فيك وفي ذريتك بعدك وأن المشيخة والخلافة في الدين فيّ وفي آلي من بعدي.
وهي لعمري كانت قسمة دنيوية وشراكة مشبوهة بين الاثنين اتخذوا من خلالها اسم الإسلام كمطية لهم وجسراً للوصول إلى مآربهم الخاصة ومطامحهم الشخصية, أما الضابط الفرنسي جان ريمون, فيذكر في تقريره الاستخباري في مذكرته الشهيرة, والمأخوذة من كتاب الوهابيون تاريخ ما أهمله التاريخ تأليف\ لويس دوكورانسي, حين يقول عن حادثة الشراكة بين المحمدين وعن تلك القسمة التي تمت بينهم, فيتحدث عن محمد سعود ما نصه :
« وكان المذهب الجديد يتيح له فرصة الاستفادة من إقدامه, ولما كان يفتش عن سبب للقتال فقد سره الحصول على سبب مُحدد جاهز. لذلك اعتنق تعاليم عبد الوهاب, فكان لاعتناقه أثر عميق جعل أتباعه يقتدون به. وكان هذا التحالف من أسباب انتشار المذهب الجديد, فازدادت الحركة قوة وخرجت قوتها المتأرجحة وغير الثابتة عن مهدها, واتخذ هذا الشعب الجديد اسم الوهابيين, وهو اسم أخذوه من عبد الوهاب والد محمد كما أشرنا أعلاه. ووجد محمد وسعود* نفسيهما على رأس هذا الشعب الجديد, فاقتسما فيما بينهما السلطة العليا, كان للأول السلطة الدينية وللثاني السلطة الدنيوية بعد أن تعاهدا على هذا التميز لدى ذرية العائلتين.». ولنأتي هنا لأهداف هذين الرجلين الشيطانية, فكلاهما يسميان كل ما سيقومان به بالتوحيد والجهاد والنصرة للدين, ويبدو أنهما مدركان ومقتنعان تماماً بما سيقومان به, بحيث أنهما يُكرران دائماً مقولة المُسلمين ويسمون أعدائهم بالمُشركين, ويتهمون من كل يحالفهم ثم ينفض عنهم بالمُرتد, وهم يزعمون الجهاد في سبيل الله وكأنهما سيفتحان الأمصار والثغور في بلاد الأفرنجة! ثم يتدارك محمد بن سعود ويقول لصاحبه لي شرطان للجهاد في سبيل الله! أي أنهُ كان جهاداً دنيوياً مشروطاً, بغض النظر عن مفهوم وشروط الجهاد الحقيقي لدى هؤلاء الشركاء, لكنهم اتفقوا على أن يكون جهادهم المزمع جهاداً مشروطاً, ويبدو أن محمد بن سعود حمل هذين الشرطين متقاسماً الرأي مع زوجته الماكرة, فقضية أن لا يتخلى عنهم محمد بن عبد الوهاب بعد أن يقوى أمره ويصلب عوده, وأنا أجزم شخصياً أن هذا الشرط قد صيغ بلسان موضي الكثيرية, وأما شرط استخلاص الضريبة التي يجنيها محمد بن سعود من أهالي الدرعية فهو قطعاً كان شرطاً من بنات أفكار محمد بن سعود لأنهُ يُدرك القيمة المالية لما يفرضه على الناس من ضرائب ومكوس. المُضحك في الأمر هو رد شيخ الإسلام كما يلقبه عثمان بن بشر في كتابه, فقد وجد المَخرج لمحمد بن سعود في أن يمتنع بفرض الجباية المالية على أهالي الدرعية, وذلك بقوله : «فلعل الله أن يفتح عليك الفتوحات»؟
نعم كان يخطط محمد بن عبد الوهاب بإنشاء عصابة مُنظمة للسلب والنهب أو جيش من عُتاة اللصوص وقطاعي الطرق والقتلة مهمتهم سفك الدماء والنهب والسبي باسم الدين, وتحت راية التوحيد المزعوم, إذ ليس من المعقول أن يستورد محمد بن عبد الوهاب وحليفه محمد بن سعود رجالاً وأتباعاً من المريخ لتنفيذ مهماتهم اللصوصية, بل كان وقود تلك العصابة الدموية لاحقاً وأدواتها الحقيقية هم وللأسف أهالي الدرعية وما جاورها, ولهذا اجتهد ابن عبد الوهاب أن يوقف عنهم ضريبة محمد بن سعود السنوية القاسية, ليس حباً فيهم ولكن رغبة منه في استخدام سيوفهم لجز أعناق المُخالفين لمشروعه التوسعي, ومن ثم يُغريهم ويطمعهم بجني الربح الوفير وتحصيل المال السريع من خلال شن الهجمات الدموية وتسيير حملات الغزو والسلب والنهب والقتل وسبي النساء, تحت ذريعة تجديد للإسلام والدعوة إلى التوحيد ونصرة أهل الدين!
والمؤلم في تلك الشراكة الدنيوية, أنهم بعد تلك القسمة المشبوهة التي تمت بين الطرفين حينما تقاسم محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب تلك الكعكة, أو لنقل تقاسما السلطتين السياسية والدينية, بدؤوا بتصنيف الناس في نجد لفسطاطين, فسطاط أهل الحق وهم المُسلمون.». انتهى.
وبالمقابل يخوض في نفس اللقاء لكنه يركز على روايتي ابن غنام وابن بشر, ويقلل من شأن رواية الريكي, فلا يذكرها في كتابه, ويقر بتلك الشراكة بين رجل السلطة مع رجل الدين, حيث يقول في صفحة 43 و 45 و 46 و 50 و 86 و 128 :
« الوجه الآخر للقصور الذي تعانيه الدراسات عن تاريخ الدولة السعودية, هو هذا الاهتمام المٌبالغ فيه بالتركيز على الجانب أو البعد الديني, وإقصاء البعدين الاجتماعي والسياسي لتاريخ الدولة, وذلك بهدف تأكيد جذرها الديني الذي يقال إنها انبثقت منه. الخ.
وروايتا ابن غنام وابن بشر هما الروايتان الوحيدتان عن لقاء الدرعية, وعما حصل من أحداث ذات صلة قبل اتفاق الدرعية الشهير وبعده. الخ.
عندما انتقل الشيخ إلى بلدة الدرعيّة المجاورة, وهناك أعاد عرض دعوته على أمير الدرعية, محمد بن سعود, طالباً منه مُناصرتها. هنا تختلف رواية ابن غنام مرة أخرى عن رواية ابن بشر, بشكل واضح, حول الحديث الذي دار بين الاثنين, وتحديداً حول عدد الشروط التي اشترطها محمد بن سعود على الشيخ قبل اتفاقه النهائي معه؛ فبحسب ابن بشر, اشترط محمد بن سعود على محمد بن عبد الوهاب شرطين كأساس للاتفاق بينهما. وهذان الشرطان هما : الأول؛ "أن الدم بالدم, والهدم بالهدم, وعلى أن الشيخ لا يرغب عنه (عن محمد بن سعود) إن أظهره الله. والشرط الثاني؛ بالنص, كما أورده ابن بشر : "أن محمد بن سعود شرط في مبايعته للشيخ أن لا يتعرضه فيما يأخذه من أهل الدرعية, مثل الذي كان يأخذه رؤساء البلدان على رعاياهم. فأجابه الشيخ على ذلك رجاء أن يخلف الله عليه من الغنيمة أكثر من ذلك, فيتركه رغبة فيما عند الله سبحانه, فكان الأمر كذلك, ووسع الله عليهم في أسرع ما يُمكن". معنى الشرط الأول؛ ألا يفكر الشيخ في حال نجاح دعوته بالتحالف مع أحد أمراء المدن الأخرى, وأن يكون تحالفه مع أمير الدرعية نهائياً. ويبدو من هذا الشرط, أن محمد بن سعود كان يخشى أن يفعل كل ما في وسعه لإنجاح التحالف, ثم يتعرض الشيخ لإغراءات من أحد أمراء المُدن ولا يستطيع مُقاومتها. وهذا يعكس حال التنافس الحاد بين المدن المُستقلّة, في ذلك الوقت. الشرط الثاني هو الأهم بالنسبة إلينا؛ لأنه يتضمن الرؤية المستقبلية السياسيّة للشيخ. وبالتالي؛ الأساس الذي قام عليه اتفاق الدرعية.الخ.
وإذا كان ما نقله ابن بشر على لسان الشيخ دقيقاً؛ فإنه يمثل أحد أقوى المؤشرات على أن دعوة الشيخ لم تكن مجرد دعوة دينية بل مشروع سياسي يرتكز على أساس ديني. الخ.
هناك ما يمكن أن يعتبر رواية ثالثة للقاء الدرعية, وهي موجودة في كتابين لا يُعرف مؤلّفاهما, على وجه التحديد : كتاب لمع الشهاب, وكتاب كيف كان ظهور شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب. الخ.
الواقع أن كلا الكتابين لا يضيف جديداً إلى ما نعرفه عن لقاء الدرعية. لكن إشارة مؤلف اللمع إلى أن اتفاق الشيخ والأمير كان على أساس "اشتراط كل واحد منهما على صاحبه ما اشترط", تفيد بأن لقاء الدرعية لم ينته بشرط واحد كما جاء في رواية ابن غنام بل أكثر من ذلك. الخ.
وكما رأينا يتعلق موضوع هذا الشرط بمسائل مهمة وإستراتيجية, بالنسبة إلى طرفي اللقاء. فـ"القانون" أو الضريبة التي كان يأخذها محمد بن سعود من أهل االدرعيّة تمثل المصدر الرئيس لدخل إمارته. ومن حيث إنه كان على وشك التوصّل إلى أهمّ وأخطر اتفاق حول مستقبل الإمارة, لا بد لأمير الدرعية من معرفة مصير هذه الضريبة في المخطط الدعوي للشيخ. وفي هذا السياق تبدو رواية ابن بشر أقرب لطبيعة اللقاء وأكثر اتساقاً مع مسار الأحداث بعد ذلك من رواية ابن غنام؛ حيث تأتي في رواية ابن بشر مسألة "الغنائم" كما وردت على لسان الشيخ بشكل طبيعي, وذلك لأنها مُرتبطة, أولاً, بطبيعة دعوة الشيخ ومُستقبلها, وثانياً, لأن الشيخ طرحها كمصدر مالي بديل عن الضريبة التي كان يأخذها الأمير من أهالي الدرعية. الخ.
الشاهد في كل ما سبق أنه يتضمن ما يدل على أن اتفاق الدرعية, بما أفضى إليه وأسس له لم يكن ابتداءً لتاريخ, وإنما محطة بارزة في سيرورة تاريخية انتهت في لحظة معينة, ومكان معين إلى ما انتهت إليه. ومن حيث الاتفاق انتهى إلى تحالف بين صاحب الدعوة, الشيخ محمد بن عبد الوهاب وصاحب البيت السياسي, أمير الدرعية محمد بن سعود, كان هدف هذا التحالف تأسيس دولة يمكن في إطارها تطبيق مبادئ الدعوة. وبما أن الشيخ كان, من الناحية التاريخية هو أول من طرح خيار الدولة المركزية, ولقاء الدرعية انتهى بالاتفاق على ذلك, فإن مشروع الشيخ يكون بذلك قد تجاوز حدود الدعوة الدينية, وأصبح حركة سياسية أيضاً, تحمل معها هدفا سياسياً عملت بكل عزم على تحقيقه.». انتهى.
ثم يستمر الدكتور الدخيل في تفسير الأسباب التي دعت لاختلاف النقل بين المؤرخين المذكورين, ويبدأ يحلل الدكتور بناء على تلك الوثائق, فإن هنالك دوافع سياسية إذن تقف خلف نظرية الشرك في نجد التي رُوج لها سابقاً وباتت الآن مشكوك فيها, بناءً على تلك الشراكة التي تمت بين المحمدين, أو ما أسماه هو بـ"وثيقة الدرعية" غير المكتوبة, وكنت قد خصصت أنا في كتابي مبحثاً عن الادعاءات القائلة بشرك أهل نجد, بعنوان (الوهابية وهاجس الشرك وعبادة الأوثان).
وبما أن الدخيل يرى أن الدعوة الوهابية لم تكن دينية خالصة بل مزيج بين الدين والسياسية, إذن فقد أدت تلك الشراكة إلى قيام دولة سياسية, ثم يقول أن محمد بن عبد الوهاب كان مؤسس دولة وليس إمام فقط, لأن دعوته الوهابية سبقت قيام الدولة السعودية بسبع أعوام. يمكن للقارئ الاطلاع على بقية الموضوع في الكتاب.
وهناك أيضاً تشابه ومُتشابهات أُخر عابرة, فأنا تناولت في الفصل الأول التغيير الديمُغرافي للسكان في إقليم نجد, وتطرقت لأسباب نزوح وهجرة قبائل عربية مشهورة من هذا الإقليم, ثم اندثار بعضها كبني حنيفة أبان فترة حكم الأخيضريين, وذكرت بعض النصوص من أمهات الكتب التي تذكر أن قبيلتي مضر وربيعة قد جلتا عن ديارهما  بسبب بطش بني الأخيضر وأيضاً بسبب جدب الأرض وشح ألأمطار, فذكرت في الصفحة 94 و 98 و 100 و 101 :
« وبات من المؤكد أن اليمامة وعموم العارض لم يبق فيها وجود لقبيلتي مضر وربيعة العدنانيتين أبان حكم الأخيضريين, حيث رحلت تلكما القبيلتان بسبب الجدب الذي حل باليمامة وانحسار الأمطار وكذلك بسبب طغيان وجور حكام الأخيضريين ضد هاتين القبيلتين, وقد حل بدلاً عنهما في نجد بعض القبائل اليمانية النازحة التي استوطنت في المنطقة. الخ.
وأما مسألة نزوح قبيلتي مضر وربيعة من اليمامة فهي حقيقة ثابتة ولا جدال فيها ولا تحتاج لمزيد من الأدلة والبراهين, فقد ذكر لنا الرواة والمدونين العرب والمُسلمين, حكاية تلك الهجرة الجماعية التي خرجت من نجد, ووثقوا لنا سيرة رحيل قبيلتي مضر وربيعة عن أرض اليمامة, ومن ثم نزوحهم نحو البصرة والحجاز ومصر حتى وصلوا للسودان, وكانت كل قبيلة تنضم إلى أبناء عمومتها أو تنشئ لها كياناً جديداً خاصاً بها, فشاهدنا فروعاً من قبيلة بني تميم قد نزحت صوب البصرة لينضموا إلى أبناء عمومتهم من دارم ويربوع وبنو سعد وفروع أخرى من بني تميم ممن كانت ديارهم بالأصل قرب البصرة, وبعضهم كان قد استوطن هناك منذ عقود طويلة.الخ.
ومن المصادر التاريخية التي وثقت تلك الهجرة العدنانية الكُبرى من إقليم نجد ومن اليمامة تحديداً, يذكر لنا ياقوت الحموي في كتابه مُعجم البلدان نقلاً عن التابعي محمد بن سيرين, خبر نزوح قبيلة بني حنيفة إلى البصرة, حيث يقول :
« وفيها [يعني في سنة 310هـ،] انتقل أهل قُرَان [بنو حنيفة] من اليمامة إلى البصرة لحيف لحقهم من ابن الأخيضر في مقاسمتهم وجدب أرضهم, فلما انتهى خبرهم إلى أهل البصرة سعى أبو الحسن احمد بن الحسين بن المثني بمال جمعه لهم فقووا به على الشخوص [الحضور] إلى البصرة فدخلوا بحال سيئة فأمر لهم - سبك - أمير البصرة بكسوة ونزلوا المسامعة محلة بها والقرينة وملهم وليس بهما من بني حنيفة إلا القليل, بل أهل ملهم من قبيلة الفضول, وأهل القرينة من قبيلة الدواسر, وكانتا سابقاً لبني سحيم من مرة من الدؤل من حنيفة.».
ويروي لنا أيضاً أبي القاسم محمد بن حوقل النصيبي المتوفى عام 367هـ في كتابه الموسوم بـ – صور الأرض – والذي ذكر أنهُ قد دخل إلى اليمامة في سنة 232هـ, حيث قد أكد بدوره تلك الحقيقة في كون قبيلتي مضر وربيعة قد هاجرتا من اليمامة, وهو يؤيد ما ذكره ياقوت الحموي نقلاً عن ابن سيرين, حيث يذكر هو الآخر :
« وأما اليمامة فواد، والمدينة به تسمى الخضرمة، دون مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي أكثر نخيلاً وثمراً من المدينة ومن سائر الحجاز, وكانت قراراً لربيعة ومضر فلما نزل عليها الأخيضر جلت العرب منها إلى جزيرة مصر فسكنوا بين النيل وبحر القلزم (البحر الأحمر), وقرت ربيعة ومضر هناك وصارت لهم ولتميم كالدار التي لم يزالوا بها، وابتنوا بها غير منبر كالمحدثة التي بظاهر أسوان وكالعلاقي وهو المنهل الذي يجتاز به الحجيج إلى عيذاب..الخ. ويقول أيضاً في موضع آخر من الكتاب : وصادف ذلك دخول محمد بن يوسف الحسني الأخيضر اليمامة وانقشاع أهلها من جوره إلى أرض مصر والمعدن في آلاف كثيرة فغلبوا على من كان بها من أهل الحجاز لسنتهم ووفودهم، وتكامل بالعلاقي قبائل ربيعة ومضر وهم جميع أهل اليمامة في سنة ثمان [وثلاثين[ ومائتين. ثم ذكر أيضاً : أن المهاجرون من نجد ‏بسبب جور بني الأخيضر يُعدون بالآلاف الكثيرة.». انتهى.
ولاحظ كيف قام د. خالد الدخيل بنقل نفس ما أوردته في كتابي لنفس الاقتباسين اللذين نقلتهما من كتاب ياقوت الحموي وابن حوقل, فقد أورد الدخيل في كتابه في صفحة رقم 107 و 108 ما يلي :
« هناك من يقول إن جزءاً من هذه القبيلة [بني حنيفة] قد غادر اليمامة في أثناء حكم بني الأخيصر لهذه المنطقة ما بين القرن 3هـ \ 9 م والقرن 5هـ \ 11 م, وذلك هرباً من القسوة والتعسف مع السكان, اللذين اتسم بهما حكم هذه العائلة. حيث يقول ابن حوقل (ت 367هـ \ 977م) في كتابه صورة الأرض عن ذلك إنه "لما نزل عليها [يعني مدينة الخضرمة] بنو الأخيضر جلت العرب منها إلى جزيرة مصر, فسكنوا النيل وبحر القلزم, ...". أما ياقوت (ت 626هـ \1228م) في معجم البلدان فيذكر أن النزوح كان إلى جهة أخرى, وذلك عندما نقل من تاريخ ابن سيرين قوله : "وفيها يعني في سنة 310هـ, انتقل أهل قران من اليمامة إلى البصرة لحيف لحقهم من ابن الأخيضر في مقاسماتهم وجدب أرضهم, ...". هنا يضيف ياقوت سبباً آخر للنزوح, وهو جدب الأرض, ما يُشير إلى أن موجة من الجفاف ضربت المنطقة خلال الفترة التي سبقت 310هـ, كما إن وجهة النزوح اختلفت أيضاً عند ياقوت عنه عند ابن حوقل.». انتهى.
وأما عن تبدل الأحوال وتغير الأوضاع في الدرعية بعد ظهور الدعوة الوهابية, فأنا مثلاً ذكرت بكتابي  في صفحة 542 :
« كان حكام الدرعية الأوائل سابقاً عبارة عن شيوخ قرى متواضعين القدرات الفكرية والذهنية, ينحصر دورهم ويتركز جل تفكيرهم واهتمامهم في حدود القرية أو على مشارف البلدة, فكانوا يتنافسون على السلطة مع جيرانهم في نجد للسيطرة على قرى وهجر صغيرة بائسة, وإذا لم يجدوا عدواً خارج نطاق القرية أو البلدة يسطو بعضهم على بعض, فيغدر الابن بأبيه ويسطو ابن العم على عمه أو أبناء عمومته فيقتلهم ويحل مكانهم إذا حالفه الحظ, وربما حادثة جد آل سعود المدعو موسى بن ربيعة الذي غدر بأبيه ربيعة, فأصابه بإصابات بليغة ومن ثم هروبه إلى العيينة, ثم قيام وطبان بن ربيعة بن مرخان أيضا بقتل ابن عمه الآخر مقرن بن مرخان طمعاً في السلطة, فهذين المثالين الحصريين خير برهان على أوضاع وأخبار الدرعية قبل ظهور الدعوة الوهابية.
ولكن عندما دخل محمد بن سعود شريكاً مع محمد بن عبد الوهاب في ذلك المشروع التوسعي, كبرت الأهداف واتسعت المطامح وتتابعت الأطماع السياسية, لذا تغيرت أفكار آل سعود الأوائل جذرياً وتوسعت آفاقهم ومداركهم وذلك بعد انطواء الوهابية تحت جناحهم, أو بالأحرى عندما انضووا هم تحت لوائها الكهنوتي, فأصبح ابن سعود أمام مسؤوليات كبيرة بعد أن تزعم تلك العصابة الدولية أو ترأس قيادة ميلشيا مُسلحة كبيرة وليس إدارة قرية صغيرة, وبات يستشعر بخطورة المهام الجسام وبالمسؤولية المُلقاة على عاتقه أمام جموع قبلية كبيرة مُشتتة وجماعات حضرية مُستقرة, وبدأت الأوضاع تتعقد شيئاً فشيئاً والشؤون العامة تتطلب أموال ضخمة وحنكة سياسية ودراية ومعرفة, ففرض آل سعود ضرائب مالية على البدو مرة بحجة الزكاة وأخرى بدافع النكال, واتخذوا سياسة أجدادهم المعروفة (سياسة فرق تسد) مع تلك القبائل البدوية المُتحفزة ومع الأسر العريقة الحاكمة حتى لا يتفرغوا لهم أو يطمعوا بمكانهم, فكانوا يقومون بتحريض شيوخ تلك القبائل على بعضهم البعض ويشغلونهم بالصراع الداخلي فيما بينهم حتى لا يرتاحوا قط أو يشعروا بالاستقرار, لأن السلام والأمان يُرعب ابن سعود وبنفس الوقت يمنح شيوخ تلك القبائل نوع من الهدوء والصفاء الذهني حينها قطعاً سيُفكرون بعقل راشد قد يجلب المتاعب لابن سعود.». انتهى.
ومثلما تحدثت عن تطور الدور المناط بابن سعود بعد تحالفه مع محمد بن عبد الوهاب, وكيف أصبح هؤلاء الشركاء عبارة عن عصابة عابرة للحدود, مهمتها السلب والنهب والقتل على الشبهة, نرى أن الدخيل حور ذلك التحول الدموي في الدرعية إلى تأسيس نظام دولة أقامها محمد بن عبد الوهاب, فيقول في الصفحة 83 و 84 :
« والأهم من ذلك أن الخيال السياسي لأمراء المدن كان محدوداً, ولذلك بقيت مصالحهم السياسية محدودة بحدود إمارة المدينة التي يحكمونهاً. مهما يكن, كانت النخبة السياسية تستند في حكمها للمدينة إلى آليات سلطة تقليدية متوارثة مُستمدة من العائلة والتي ورثت بدورها بعضاً منها عن القبيلة. فرؤساء المدن أو أمراؤها يأتون عادةً من عائلات توارثت هذه المكانة, كما سنرى وأصبح هذا الإرث مصدرّ سلطة بحد ذاته ومعترفاً به اجتماعياً. وأبرز آليات هذه السلطة كانت القوة إلى جانب الأيديولوجيا القبليّة لمُجتمع عائلات الحاضرة النجدية. الخ.
... لكنها تضيف إلى ذلك شيئاً مهماً وهو أولاً : أن الوهابية كانت تحمل معها مشروعاً سياسياُ. ولهذا لا بد من أنها خضعت للمُعطيات والشروط السياسية التي يقتضيها ذلك المشروع. وتقول ثانياً : إن الوهابية بظهورها على مسرح الأحداث قبل الدولة وبكون مؤسسها أول من طرح فكرة الدولة وكون دوره, وتبعاً لذلك دور الحركة, كان مركزياً في إقامة الدولة, كل ذلك يشير بوضوح إلى أن الوهابية بمثل هذا الدور الذي أدته كانت جزءاً لا يتجزأ من تاريخ الدولة, وبالتالي من عملية سياسية – تاريخية واسعة ومتصلة في وسط الجزيرة العربية (نجد) انتهت بقيام الدولة.الخ.
كان اتفاق الدرعية الخطوة الأولى على طريق تجسّد فكرة الدولة وتحولها إلى مؤسّسة على أرض الواقع, وبالتالي كان لحظة مفصلية من حيث إنه دشن من جديد مرحلة الدولة المركزية في تاريخ الجزيرة العربية, منذ انتقال دولة الخلافة إلى خارجها قبل أكثر من أحد عشر قرناً. الخ.
وبالعودة إلى الوراء تاريخياً, إلى ما قبل اتفاق الدرعية, وقياساُ على ما حصل بعده, سوف يبدو أن الاتفاق كان الذروة التي وصلت إليها عملية تشكّل الدولة هذه في ذلك الوقت. والسؤال في هذه الحالة : من أين يمكن أن تكون قد بدأت هذه العملية؟ والإجابة الوحيدة التي يقدمها تاريخ الجزيرة العربية هي حركة القبائل المتصلة من دون توقف : حركة الهجرة والاستقرار, ثم الهجرة فالاستقرار مرة أخرى, والحروب والغزوات والتحالفات وصدام القبائل مع الدول (داخل الجزيرة وخارجها) أو العمل لصالحها. وخلال ذلك كانت تنشأ مستقرات قبلية وحواضر ومدن تتعرض بفعل عوارض العملية ذاتها للدمار والخراب, لتنشأ مرة أخرى, حتى بعض الدول كانت تقوم ثم تنهار. كانت هجرات القبائل واستقرارها ظاهرة مستمرة ومركبة عرفت بها الجزيرة العربية عبر تاريخها, وبالتالي كانت السياق الاجتماعي والسياسي الذي أطر عملية تشكل مفهوم الدولة خاصة في وسط الجزيرة العربية ومصدر طاقة لها لا ينضب. وإذ إن هذه الظاهرة استمرت لقرون طويلة, فقد ترتب عليها آثار اجتماعية وديمُغرافية وسياسية بعيدة الأثر. وكان ظهور الوهابية هو أحد إفرازات هذه العملية.». انتهى.
وكنت قد تطرقت في كتابي إلى الخلافات التي حدثت بين آل عبد الوهاب أنفسهم بسبب تطرف محمد بن عبد الوهاب وذلك من خلال تكفيره لأهل نجد, فأدى إلى خلاف وقطيعة بينه وبين أبيه وكذلك مع شقيقه سليمان أدى لاحقاً إلى المواجهة بالسلاح, حيث خصصت فصل خاص بعنوان (الصراع الأُسري بين آل عبد الوهاب) فذكرت في صفحة رقم 330 و 334 و 335 :
« وبالإضافة إلى الخلاف العميق الذي نشأ بين الشقيقين, فمن المعروف أيضاً أن الأب الشيخ عبد الوهاب بن سليمان قاضي العيينة السابق, كان هو الآخر مُعارضاً معارضة شديدة ورافضاً لتصرفات ولده محمد, وكان كثير الانتقاد والتعنيف له, وقد حصل بينهما جدلاً وخلافاً كبيراً, ذكره العديد من المؤرخين, وكذلك الأمر ينطبق على شقيقه الشيخ سليمان بن عبد الوهاب الذي وصل الخلاف والعداء بينه وبين أخيه محمد إلى حد الحرب والقتال.
ويوثق لنا المؤرخ العراقي إبراهيم فصيح بن السيد صبغة الله الحيدري البغدادي في كتابه الذي ألفه قبل مائة عام تقريباً والذي حمل اسم :– عنوان المجد في بيان أحوال بغداد والبصرة ونجد – حيث يذكر بعض من ذلك الخلاف, فيقول :
« فأشهر علماء نجد الشيخ محمد بن عبد الوهاب .. الذي تنتسب إليه الوهابية, والنسبة إنما هي إلى الشيخ محمد لأنهُ الذي شيد أركان الوهابية دون أبيه, بل خالف أباه المذكور ووقع بينهما جدال - كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى – فنسبت لعبد الوهاب مجازاً,..... الخ. فقرأ الشيخ محمد على أبيه الشيخ عبد الوهاب الفقيه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه, وكان الشيخ في صغره كثير المُطالعة لكتب التفسير والعقائد, وأظن كثرة مُطالعة الكتب بدون مُراجعة العلماء الأسانيد والأخذ عنهم هو الذي حمله على التعصب الذي شاع عنه, فأن العلم بالتلقي والاستقلال في الرأي يوقع في المهالك ومخالفة الجمهور وخرق الإجماع. فصار يُنكر على أهل نجد كثيراً من الأمور, فلم يُسعفه أحد وإن استحسن إنكاره بعض الناس ...... الخ. ولما وصل الشيخ محمد لبلدة حريملا لازم أباه الشيخ عبد الوهاب, وقرأ عليه ثانياً وأظهر الإنكار على أهل نجد في عقائدهم فوقع بينه وبين أبيه الشيخ عبد الوهاب منازعة وجدال, وكذلك وقع بينه وبين الناس في بلدة حريملا جدال كثير, فأقام على ذلك مدة سنتين حتى توفى أبوه الشيخ عبد الوهاب رحمه الله تعالى ثلاث وخمسين ومائة وألف.». ثم يذكر لنا صبغة الله الحيدري في مكان آخر من نفس الكتاب :
« وكان والد الشيخ عبد الوهاب, الشيخ سليمان فقيهاً أعلم علماء نجد في زمانه, وله اليد الطولى في العلم, وانتهت إليه رئاسة العلم في نجد, وصنف ودرس وأفتى, إلا أن الشيخ محمد لم يكن على طريقة أبيه الشيخ عبد الوهاب وجده الشيخ سليمان, بل كان شديد التعصب كثير الاعتراض على العلماء, وكان يُجوّز قتال من خالفه, بل يعتقد كفره, ويُسمي قتال المُسلمين المُخالفين له جهاداً في سبيل الله تعالى, ويجعل أموالهم كغنائم الكفار, ويمنع من قصد زيارة النبي صلى الله عليه وسلم, والاستغاثة والاستشفاع به صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى وسائر الأنبياء والأولياء وغير ذلك مما أطبق الجمهور على جوازه. ....الخ إلا أنهٌ بالغ في بعض الأمور, وحمل الناس على اعتقاد عدم الشرك فيما خالفه, وحثهم على قتال المُخالفين له وأحل أموالهم, وجعل قتالهم جهاداً في سبيل الله تعالى, وصار سبباً لإظهار هذه البدع الواهية والفتن العظيمة.. الخ.». انتهى.
وفي نفس الموضوع يذكر الدخيل في كتابه عن ذلك الخلاف الذي أوردته في كتابي وخصصت له فصل مُستقل, ذلك النزاع الذي وقع بين الأب القاضي عبد الوهاب وولده محمد فيقول في الصفحة 91 :
« يقول ابن بشر "فلما تحقق الشيخ رحمه الله معرفة التوحيد, ومعرفة نواقضه, وما وقع فيه كثير من الناس من هذه البدع المُضلة, صار ينكر هذه الأشياء". ومثل ابن غنام أيضاً يذكر ابن بشر أن الشيخ بعد عودته إلى حريملاء من رحلاته, البلدة التي انتقل إليها والده من العيينة, أخذ يكثر من الإنكار لما كان عليه الناس من الشرك. لكنه ينفرد عن ابن غنام في إشارته إلى أن خلافاً ما حصل بين الشيخ وأبيه؛ حيث يقول إنه "وقع بينه [الشيخ] وبين أبيه كلام", هكذا من دون تفاصيل. ويفهم من إشارة ابن بشر هذه أن والد الشيخ الذي كان قاضياً معروفاً, كان يختلف مع ابنه لكن من دون أن يوضح طبيعة هذا الاختلاف إن كان مع موقف الشيخ ورؤيته للحالة الدينية التي يُقال إنها كانت سائدة, أم أنه اختلاف مع أسلوب الشيخ وطريقته في التعامل مع هذه الحالة.». انتهى.
وكنت قد نوهت أيضاً في كتابي من أن الرفض والدحض لدعوة محمد ابن عبد الوهاب في البداية جاء من قبل أهل السُنة والجماعة وأغلبهم كان على المذهب الحنبلي, ولم يكونوا شيعة أو مُبتدعة كما يظن البعض, حيث أوردت في صفحة 60 و 342 :
« بل أن أول من رد على الوهابية وفندَ أفكارها الدموية وأهدافها المصلحية هم من أبناء ألسُنة والجماعة, حيث لم يكن للشيعة حجة أو حضور آنذاك كي يردوا عليها ويطرحوا أنفسهم كمُنافسين أو أنداء لها.
وللعلم فأن أول من أنكر وثرب على محمد بن عبد الوهاب هو والده الشيخ عبد الوهاب قاضي العيينة, وأول من رد رداً فقهياً مُفصلاً عليه هو شقيقه الشيخ سليمان بن عبد الوهاب في رسالته التي طبعت لاحقاً على هيئة كتاب. الخ.
ولم يتوقف الأمر على موقف سليمان وأبيه فقط من تلك الدعوة, فقد رد الكثير من مشايخ نجد وعلمائها على محمد بن عبد الوهاب وفندوا دعوته ومن ضمن من خالفه الرأي كان سليمان بن محمد بن سحيم ومربد المربد ومحمد بن عبد الله بن فيروز النجدي وعبد الله بن عيسى المويسى والشيخ أحمد المصري الأحسائي، وكذلك الشيخ أحمد بن علي القباني صاحب البصرة, وأيضاً رد على ابن عبد الوهاب الشيخ عطاء المكي الذي ألف رسالة سماها – الصارم الهندي في عنق النجدي -, وربما من أهم من رد على هرطقات محمد بن عبد الوهاب هو الشيخ الجليل محمد بن عبد الرحمن بن عفالق. وقد ذكر حسين بن غنام بعض الأسماء المعروفة من مشايخ نجد ممن خالفوا محمد بن عبد الوهاب وجادلوه, ولكنه اتهمهم بالحسد والغيرة والنقمة على ابن عبد الوهاب, حيث يذكر ابن غنام في كتابه:
« والذي تولى منهم هذا الأمر الكبير واقتحم لجج موجه الخطير وشمر فيه أعظم التشمير وتنادى عليه مع أعوانه لأجل التغيير حسداً وبغياً لفوزه بهذا الفضل الكثير والفخر النابل المُنير, سليمان بن سحيم وأبوه محمد من مطاوعة الرياض, والموانيس من أهل منيخ, وعبد الله بن محمد بن عبد اللطيف, ومحمد بن عبد الرحمن بن عفالق, فصار كل من هؤلاء مُعانداً مُجادلاً مُشاقق وحذروا منه جميع الأنام, وأخرجوه بلا شك من حوزة الإسلام وأغروا به الخاص والعام خصوصاً السلاطين والحكام.». انتهى.
وهنا أيضا يورد الدخيل نفس المعلومة في كتابة من أن خصوم محمد بن عبد الوهاب ودعوته كانوا من أهل السنة والجماعة والحنابلة تحديداً, حيث جاء في صفحة رقم 154 :
« من هذه المؤشرات, المؤشر الأول, وهو أن العلماء الذين كانوا يُعارضون دعوة الشيخ كانوا علماء نجديين, وينتمون إلى المذهب الحنبلي في الأصول والفروع, وهو المذهب نفسه الذي تستند إليه دعوة الشيخ. وتمشياً مع حقيقة أن المذهب الحنبلي كان هو السائد في نجد, ليس هناك مثال واحد على عالم مُعارض للدعوة كان ينتمي إلى أي من المذاهب الإسلامية الأخرى التي تتبنى فكرة الشرك المؤسساتي بشكل خاص أو تجيزها.». انتهى.
ويستمر التشابه في بعض السياقات العابرة, والاعتراض هنا على الدكتور خالد الدخيل أنه لم يسلك المسلك الأكاديمي كونه أستاذ جامعي يحمل شهادة الدكتوراه من جامعة أمريكية, وهو قطعاً يفهم مسألة الأسبقية في البحث سواء كان علمياً أو تاريخياً, فلو أنه رد على ما أوردته أنا في كتابي مُفنداً رأيي ومُتخذاً رأياً آخر يخالفني فيه ويدحض ما ذكرته, فهذا يعتبر عمل مشروع ولا غبار عليه.
ولو ذكر مثلاً أنه قد اطلع على كتاب (الوهابية دين سعودي جديد) ووجد أن رأي مؤلفه يعتقد أن العلاقة بين محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود كانت شراكة سياسية مصلحية بحتة وليست دعوة دينية خالصة لوجه الله, وأنهُ يُخالف ذلك الرأي كما خالف غيره في كتابه, ثم يطرح وجهة نظره حول فكرة تلك الشراكة السياسية, ومن ثم أنهُ وجد في نفس الكتاب مُقارنة جديرة بالاهتمام للاختلافات في الطبعات الخاصة بكتب ابن غنام وابن بشر, وأنه راجع تلك النسخ وفعلا وجد فيها اختلاف وتحوير وتغيير, لكان عمله هذا مشروع ومكمل ولا ضير فيه.
لكنه لم يفعل وطرح في كتابه أفكار كنت قد سبقته إليها, والتشابه والتماهي في الأفكار هنا جلي وواضح ولا يقبل الشك, مع هذا يزعم الدكتور أن الدارسين لم ينتبهوا لتلك الاختلافات والفروق في الطبعات الخاصة بكتب ابن غنام وابن بشر!
وهذا تدليس وإجحاف وغمط للحقوق ولا يفترض أن يصدر من أستاذ جامعي, ألم يسع الدكتور أن يطرح أطروحته القديمة في كتاب دون أن يدنسها بأفكار منقولة من غيره؟ ولم زج بما جاء في كتابي ضمن سياق أطروحته التي كتبها قبل 15 سنة؟
أخيراً يقول الدكتور خالد الدخيل في كتابه عن فرضية الشرك وعملية التغييب للعامل السياسي في تاريخ الدعوة الوهابية في صفحة 96 :
« وفي الأحوال كلها فقد ترتب على ذلك كله أن أصبحت الدولة, وقبلها الحركة [الوهابية], وفقاً لهذه الرؤية معزولة عن سياقها التاريخي, وتبدو كما لو أنها من دون عمق تاريخي تستند إليه, وصار تاريخها يبدو أيضاً كما لو أنه تاريخ مبتور, وليس له أصول اجتماعية وسياسية يُمثل الامتداد الطبيعي لها.». انتهى.
فأقول للدكتور : ولهذا اخترت أنا عنواناً لكتابي هو – كشف المستور في تاريخ نجد المبتور – وأرجو أن تكون قد استفدت منه.
لن أطيل في إيراد مزيد من المٌتشابهات وأترك للقارئ الحريص والمُهتم الإطلاع والمُقارنة, وأكتفي بما أوردته في هذا المقال في تثبيت الأسبقية أمام القراء.

2014-04-23








تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

صنائع الإنجليز - بيادق برسي كوكس وهنري مكماهون

نفق لص اليمامة وبقية الديناصورات السعودية تترقب

مسلسل «قيامة ارطغرل» ولادة جديدة للدراما التركية الهادفة