ليس دفاعاً عن الأتراك ولكن إنصافاً للتاريخ

فخر الدين باشا من طراز القادة العثمانيين الأبطال الذين سطروا الملاحم رغم ضعف وخوار الدولة العثمانية في أواخر أيامها؛ وكان بدو الحجاز معجبون بقوة وصلابة ذلك الباشا العثماني العتيد.

وقد قاوم فخري باشا لآخر لحظة في المدينة المنورة حينما تآمر الشريف حسين وأبنائه مع الإنجليز ولم ينهب مُقتنيات الحجرة النبوية كما فعل سعود بن عبد العزيز؛ ولم يسرق أموال أحد لأنه كان مُحاصراً داخل المدينة

ولم يتم ترحيل سكان المدينة في القطارات إلى الشام واسطنبول كما زُعم؛ بل العكس حدث حينما قام الشريف حسين بإجلاء الأسر التركية قسراً من الحجاز.

موقع "تويتر" مُناسب جداً لتبادل الآراء والطرح والتعليق السياسي ولكنه لا يصلح للسرد التاريخي من خلال بضعة حروف خاصة من قبل بعض الدخلاء في هذا المجال, وإن حصل هذا من خلال بعض المُتطفلين المُتوارين وراء كُنى ومعرفات وهمية؛ فلا يُمكن الاعتماد على ما يُطرح دون التمحيص والرجوع إلى المصادر والمراجع التاريخية, وإلا أصبح التاريخ سلعة رخيصة بيد من المُرتزقة ومن لا يفقه في أبسط مقومات هذا العلم الإنساني -الاجتماعي الخاص بتدوين ودراسة أحداث الماضي من أجل استلهام تجليات الحاضر.
وإذ أعجب من بعض الحكومات وحتى وزراء بعض الدول حينما ينساقون وراء تغريدة مجهولة المصدر تُدلس في التاريخ, فيتبنون ما جاء فيها دون القراءة والتمحيص أو على الأقل استشارة أصحاب الاختصاص في هذا المجال, وهذا ينطبق على السيد وزير خارجية الإمارات عبد الله بن زايد, الذي سارع بإعادة ما جاء في تغريدة لشخص دخيل على مادة التاريخ يُدعى (د. علي العراقي), وحينما أقول أنه دخيل على التاريخ وذلك لأنهُ عرف نفسه في صفحته في تويتر على أنه طبيب أسنان يعيش في ألمانيا, وهو يضع صورة سلمان بن عبد العزيز كواجهة له! وقد تفرغ للإساءة لتاريخ الأتراك وشتم الرئيس التركي طيب رجب أردوغان.
وبغض النظر إن كان طبيب الأسنان هذا المتطفل على التاريخ كان عراقياً فعلاً أو أحد الذباب الإلكتروني السعودي الموجه من الذين يتخفون وراء أسماء مُستعارة, أو ربما مرتزق يسعى للاستخذاء من خلال بث تلك الهمروجات التاريخية التي أطلقها عبر تويتر, فالعتب هنا ليس عليه وهو لا علاقة له أصلاً بالتاريخ, لكن العتب يقع على وزير خارجية الإمارات الذي يُفترض به أن يستعين بمُختص في التاريخ يرجع  إليه في هكذا حالات عابرة, وأن لا ينجر وراء تغريدات مجهولة تقطر حقداً وسماً على الأتراك أو غيرهم.
وهذا الأمر أي التطفل على بقية الاختصاصات يُعتبر دارج وشائع في عالمنا العربي, إذ تجد الجميع يتبجح بالمعرفة الشاملة ويتطفل على اختصاص غيره, فتجد شيخ الدين خبيراً ساذجاً في الفلك والفيزياء ويُنظر عن استحالة دوران الأرض؛ وتجد شاعراً نبطياً خبيراً في الغيبيات, ثم تجد أمياً دجالاً يُحضر الأدوية ويعالج المرضى, كما تجد طبيب أسنان يتبردع بالتاريخ وليته يُفلح, ومع هذا تجد قطعان الحمقى والمغفلين ينساقون خلف هؤلاء الأفاقين.
وقد يقول البعض أن أحداث التاريخ ورواياته مُباحة للجميع, ومن حق أي شخص كان أن يدلي بدلوه ويُشارك في نقل أحداث التاريخ؛ وهذا الأمر مُمكن لكن بشرط أن لا يزور الناقل أو يُلفق أو يُفبرك ما ينقله, وليعلم أن أصحاب هذا المجال كُثر وسوف يردون عليه ويلقمونه الحجر تلو الحجر ليخرس ولا يتطفل على اختصاص غيره.
ولهذا يُشترط وجود المصدر أو المرجع التاريخي لكل رواية, أو الاستعانة بالوثائق والمخطوطات التاريخية التي تؤيد زعمه, كإسناد وتوثيق لما يروى ويُذكر عن أحداث التاريخية التي أراد طرحها, وإلا الادعاءات والهرج والمرج كثير, وأحمق من سيُصدق دون أي مصدر أو وثيقة.
وفي موضوعي لهذا حول هذا الأفاق المدعو (علي العراقي), كان يُمكن أترك أمره إلى الأتراك الذين ردوا عليه وسيردون, وأجزم أنهم سيلجموه بما لديهم من وثائق تاريخية, لكن ما استفزني في تغريدته هو التدليس الوقح والتلاعب في أحداث التاريخ الموثقة في عدة مصادر, والتي تكاد تكون محسومة, فجاء ردي هذا ليس دفاعاً عن الأتراك وهم لهم ما لهم وعليهم ما عليهم وإنما إنصافاً للتاريخ, لأن التاريخ العثماني هو جزء لا يتجزأ من تاريخنا شئنا أم أبينا, فالأتراك أمة إسلامية حية لها فتوحاتها ومُنجزاتها الحضارية تداخلت معنا كعرب لستة قرون, واستطاع الأتراك أن يكونوا إمبراطورية إسلامية مهابة الجانب حكمت أجزاء كبيرة من العالم, ومن المُعيب أن يأتي بعض خشاش الأرض ينتقصون منها الآن بعد أفول نجمها.
والأتراك كإمبراطورية مُترامية الأطراف لها حسناتها ولها مساوئها, ووجد فيها رجال عظام أوفياء, وقادة أبطال, ووجد أيضاً فيها بعض الخونة والمُتآمرين ممن استخذتهم بريطانيا واستخدمتهم كأدوات هدم ضد دولتهم, كما حصل مع بعض الخونة العرب الذين استخدمهم الإنجليز ككلاب صيد وأحصنة طروادة لنخر جسد الدولة العثمانية من داخلها ومن أطرافها أيضاً, ولا حاجة هنا لكي نكرر أن لولا خيانة بعض العرب كالشريف حسين وأبنائه وعبد العزيز بن سعود ومعه مبارك الصباح لما نجح الإنجليز باحتلال بلاد الشام وفلسطين, ولا لما استطاعوا احتلال العراق, وهذا لا يعني أن الإمبراطورية العثمانية كان دولة ملائكية, بل أول من بدء في نخر سفينتها هم جماعة الإتحاد والترقي المدعومين من الماسونية العالمية وهذا يحدث في كل الأمم, وهنا يجب توضيح اللغط الذي يقع به بعض المُتطفلين على التاريخ.
فالكثير من الناقمين والحاقدين على الترك كقومية وعنصر بشري يُحاول خلط الأوراق وإثارة الأحقاد والعداوات بين العرب والأتراك لغرض شرعنة خيانة الشريف حسين وأبنائه, وخيانة عبد العزيز بن سعود ومبارك بن صباح وغيرهم, لأن هؤلاء صنائع للإنجليز وقطعاً لن يعترفوا لا هم ولا أبنائهم ولا حتى أحفادهم بحقيقة خيانتهم وتآمرهم مع الإنجليز ومن ثم تمزيق العالم الإسلامي والعربي وضياع فلسطين, وهنا يكمن الخبث في السرد والتلفيق التاريخي.
لكن هناك أحداث مهمة يجب توضيحها للقارئ غير الملم :
1- تم خلع السلطان عبد الحميد الثاني من خلال انقلاب خططت له جماعة الاتحاد والترقي في سالونيك عام 1909م حيث تم تكوين جيش بقيادة محمود شوكت باشا, فخلعوا السلطان عبد الحميد الذي رفض أن تقع مواجهة عسكرية بين قواته والجيش القادم من سالونيك وقبل أن يتنحى عن الحكم وتم تعيين أحد إخوته غير الأشقاء - محمد الخامس - كواجهة فقط, بينما من يحكم في حقيقة الأمر هم هؤلاء المنقلبين من جماعة الإتحاد والترقي, وأصبح السلطان مُجرد طرطوراً بيد هؤلاء.
إذن السلطان عبد الحميد تم خلعه في عام 1909م والحرب العالمية الأولى اندلعت في 28 يوليو عام 1914م, أي قامت الحرب والسلطان عبد الحميد تم خلعه منذ 5 سنوات, ومن يحكم هم جماعة الإتحاد والترقي وأما السلطان محمد الخامس فقد كان مُجرد واجهة لا يحل ولا يربط في وقته.
وقد دخلت الدولة العثمانية الحرب العالمية في 29 نوفمبر من عام 1914م, ولم يبدأ الأتراك بقيادة جماعة الإتحاد والترقي بالمواجهة مع العرب والبطش بثلة المُتمردين منهم إلا بعد اندلاع ما يُسمى بالثورة العربية في 10 يونيو من عام 1916م - وهو في حقيقة الأمر كان تمرداً رتب له الإنجليز مع الشريف حسين وأبنائه -, أي بعد مرور عامين على اندلاع الحرب العالمية الأولى.
وطوال تلك الفترة السابقة لعام 1916م لم يبدر أي عنف أو بطش من قِبل الأتراك ضد العرب, بل كانوا يُعاملون في اسطنبول وكأنهم من الصحابة, وخاصة الشريف حسين وأبنائه حيث كانت تُقبل يد الشريف حسين من قِبل الباشوات الأتراك, ولكن بعد أن بدأ عبد الله بن الحسين وأخوه فيصل بالتخابر مع الإنجليز والتنسيق مع ما يُسمى بالقوميين العرب والأرمن بعلم أبيهم حسين, والتحضير للتمرد ضد الأتراك لصالح الإنجليز الغزاة, هنا بدأ البطش بهؤلاء الخونة والمتآمرين, وأظن أن هذا أمر طبيعي في ظل أي دولة تتعرض لحرب وعدوان من قِبل دولة أجنبية ثم يتعاون بعض رعاياها مع تلك الدولة الغازية.
إذن يجب التمييز بين التاريخ الطويل للدولة العثمانية وعلاقتها الطيبة مع العرب, وخاصة مع أشراف مكة وكل من يزعم أنه من آل البيت حتى ولو كان دجالاً, فقد كان السلاطين العثمانيين يجلونهم ويمنحونهم العطايا والرواتب, وكانت الدولة العثمانية تفرض ضرائب على جميع ولاياتها باستثناء ولاية الحجاز, فقد كانت هي من تُرسل الأموال والزكاة وتفرض على ولاية مصر أن تبعث بالحبوب والمال للحجاز.
وفي تلك الفترة التي حكم فيها جماعة الاتحاد والترقي, والتي دخلت فيها الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى, وجدت هناك تنظيمات سرية قومية عربية يتزعمها بعض نصارى الشام ثم امتطاها الشريف حسين وأبنائه, وبدؤوا يتآمرون مع الإنجليز لهزيمة الدولة العثمانية, وهنا بطش جمال باشا بهؤلاء القوميين في الشام ولبنان وقام بإعدامهم, وأي قائد آخر سواء كان تركياً أو بريطانياً أو حتى عربي حينما يكتشف أن هناك متآمرين مع العدو في حالة الحرب يسعون لإسقاط الدولة سوف يبتر رؤوسهم دون رحمة.
إذن هناك من يحاول شيطنة الأتراك وحصر كل تاريخهم المجيد في آخر سنتين صعبتين حينما دخل الأتراك الحرب العالمية الأولى مع ألمانيا ضد بريطانيا وفرنسا, وبدؤوا بالبطش ببعض الخونة العرب والأرمن وقاموا بإعدامهم في بلاد الشام؛ وهؤلاء المُتباكين الآن على أولئك الخونة هم من نفس طينتهم, يُريدون من الأتراك أن يُربتوا على أكتاف المُتآمرين ويمنحونهم الأوسمة وأنواط الشجاعة لأنهم تآمروا مع الإنجليز.
وسوف أنقل لكم مقتطفات من كتابي - صنائع الإنجليز - الجزء الأول نقلاً عن ما دونه الشريف عبد الله بن الحسين في مُذكراته وما قاله المؤرخين النجديين عن الأتراك, ممن عاصروا تلك الأحداث وعن خيانة الشريف حسين, لكي لا يُقال أنني نقلت من مصادر تركية أو مصادر مُحابية, وسوف أنقل لكم عن مؤرخ عنيزة محمد العلي العبيد في كتابه - النجم اللامع للنوادر جامع - وهو مُعاصر لتلك الأحداث وحضر مجالس الشريف حسين وهو نجدي من أهالي عنيزة ولا أظن أن لكع ألمانيا المدعو علي العراقي سوف يُزايد عليه, وليرى من هو الذي طرد السكان الأتراك المساكين من المدينة المنورة, فيقول العُبيد في مخطوطته  :
« ثم دخلت سنة 1334هـ : وفيها نقض الشريف الحسين عهده مع الترك فأنه من حين ما وطئت أقدامه في مكة قادماً من اسطنبول في 13 من ذي القعدة سنة 1326 هـ, وهو من ذلك الحين مضمراً الغدر لدولة الترك ولكنه يتحين الفرص ويتألف العرب بالسياسة الخرقاء التي تتقلب كما تقلب لون الحرباء, هذا وأنه لا يقيم لملوك العرب وزناً فقط [بل] أنه يتطلب المساعدة من البادية ومن أوباش الناس الذين ليسوا بقادة ولا زعماء, فتارة يُصادق قبيلة ويعادي أخرى وتارة ينقلب على الصديق ويصادق العدو, ولن يعرف له قاعدة ينبني عليها أو يستند اليها. وغاية الأمر أن حياته حياة من لا يوثق له بعقد ولا بعهد, وإن كل من دخل في طاعته فهو مُهدد وكأنه جالس تحت حائط عائب لا يعلم متى ينقصف عليه, وكان من يوم ما جلس رئيساً في مكة ومضى له ثمان سنوات وكلها يجمع العدة "للنهقة العربية" التي يسميها النهضة, وكان في السنة التي أراد أن ينهض بها على الترك فكان يسهر أيام وليالي بالمراقبة على كل عربى يظن أن له معرفة بالترك أو يدخل معهم في خلة أو معاملة أو من له احتكاك مع الترك, فإنه يجتهد سعيه في إبعاده عنهم حتى ولو أدى ذلك إلى إتلاف ذلك العربي, وقد يأمر بالحبس على أشخاص ليس لهم ذنوب فيلقيهم في السجون, فيعجبون الناس من تصرفاته ولم يعلمون عن السياسة الغادرة الغامضة, وكل ذلك خوفاً من تسرب الأخبار إلى الترك لأنه يريد أن يكسبهم وهو بصفته أعمى لا يحمل عصاً وليس له قائد.
فلما كان في شهر رجب من السنة المذكورة أخذ يعد عدته للهجوم وأتفق مع دولة الانجليز أن ترسي مراكبها في مرسى جدة في ليلة قيامه على الترك, فهو يضربهم براً وهي [يريطانيا] تضربهم بمدافعها بحراً, فأخذ يجمع البدو من بادية الحجاز وضمهم إلى من معه من أهل نجد ممن يسمون "عقيل" ثم رتب الهجوم في مكة وجدة والمدينة المنورة والطائف في ليلة واحدة, وهي الليلة التاسعة من شهر شعبان من السنة المذكورة.
فأول ما هجم "الحصان الأشقر" على الطائف وهو عبد الله بن الحسين, وهجم الحسين بجنوده على القلعة والثكنات العسكرية, وكان الهجوم مرتب في المملكة كلها على الساعة التاسعة من تلك الليلة, وكانت كل قوة أو حركة تبدو للترك يستعملها الشريف ويحتج بها أننا نطوع بها البادية العاصين. وكانت دولة الترك حينما أحست بحركة الشريف أو جاءها جواسيس يخبرونها بما عزم عليه من الثورة على تركيا, فحينما بقي على موعد الثورة 6 أيام وإذا يرد على والي الحجاز من قبل الدولة التركية أن افتح باب الكعبة واطلب الشريف الحسين يدخل معك ويبايعك فيها على النصح بالقيام مع دولة بني عثمان, وأنه لا يغدر بها ولا يُعين عليها عدواً.
ففعل غالب باشا ما أمرته دولته به فاستدعى بالشريف الحسين ودخلا جميعاً في بطن الكعبة فكانوا يتبايعون ويتصافحون بالأيدي, والشريف الحسين يبكي بدموع غزار ويقول: أتظن دولة بني عثمان أنى أغدر بها وأكفر بنعمتها التي غذتني بثديها أنا وأولادي والأشراف جميعاً وكل من يتعلق بنا! فإننا غرس لنعمة الدولة العلية.
يقول ذلك والدموع تسكب على خديه, فأخرج غالب باشا منديله من جيبه وأخذ ينشف الدموع من خد الحسين بيده, ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله, فكان الحسين ينطبق عليه هذين البيتين من الشعر وهما صفة رجز :
ذئبٌ تراه مُصلياً *** فإذا مررت به ركع!
يدعو وجُل دعائه *** ما للفريسة لا تقع؟
عجل بها يا ذا العلا *** إن الفؤاد قد انقطع!
ومثل ذلك فقد قدم المدينة أنور باشا وهو قائد حربية الترك وكان قدومه في يوم معاهدة الحسين لغالب باشا في الكعبة, وكان معه حين قدومه فيصل بن الحسين بن علي فطلب أنور باشا من فيصل بن الحسين أن يدخل معه في الحجرة النبوية العظيمة وأن يبايعه على نص بيعة والده لغالب باشا فدخلوا الحجرة جميعاً [وتبايعوا].
وفي تلك الساعة وعلي بن الحسين أخو فيصل نازل في "بير الماشي" يبعد مرحلة واحدة عن المدينة ونزوله في ذلك الموضع فهو ينظم الثورة على دولة الترك, ثم بعد ان غادر المدينة أنور باشا ثاروا جميعاً بتلك الليلة المعهودة باربع المدن كلها, فلما ثار الشريف الحسين بمكة تلك الليلة وكنت حاضراً ومُشاهداً لذلك, وكانت ليلة صائفة ونحن في برج السرطان أو في برج الجوزاء فثارت البادية والحاضرة على الأتراك وكل من أهل المراكز التركية انحصر في مركزه, فلا يقدرون مساعدة بعضهم لبعض لأنهم فصلوا عن بعضهم.
وكان الشريف الحسين قد خدع دولة الترك قبل الثورة بمدة شهرين, فقد حسن لهم أنهم ينزلون الأطواب [المدافع] الضخمة من قلعة جياد ومن قلعة الطائف ويسحبونها إلى ثغر جدة, لأنه حذرهم أن الخطر على جدة من مراكب الانجليز بالبحر, وأما بلاد العرب فأنا أحميها ولن تحتاج إلى أطواب فالثغر البحري أحق بها.
فوافقوه على ذلك ظناً منهم أنهُ ناصح لهم وهو بضد ذلك, وأرسلوها إلى جدة وكان قصده من ذلك ليأمن منها, وكان قائد المدفعية واسمه كامل بيه حينما يرى قلل الأطواب الضخمة [القذائف] وهو محصور في قلعة جياد ولم يترك لها أطواب تثور بها, فكان يحثى التراب على رأسه من القهر على فقدها, هذا وإن الشريف الحسين قد حسن لوالي العساكر غالب باشا بعد المُبايعة معه في بطن الكعبة أن يخرج إلى الطائف بعساكر كثيرة وهو يريد حصرهم هناك يعني بالطائف.
فلما استمرت واشتدت وكان قائد عساكر مكة مقره الحميدية المشهورة قرب الحرم الشريف واسمه حلمي باشا, وكان الشريف الحسين من قبل الثورة بساعتين قد أمر بقطع المواصلات بين الترك, وأمر بقطع التيول [خطوط التلغراف] الممدودة بين المراكز كلها, فقطعوها كلها إلا ما كان من التليفون المتصل من الحميدية إلى قصر الشريف فهو لم يقطع وكانت الحميدية محصورة من كل الجهات, فتكلم الوكيل من الحميدية للشريف الحسين وهو في بيته بان زهم [اتصل] على الشريف الحسين وقال له: يا شريف افندى حنا محصورين في الحميدية والرمي زاد على العسكر وأنا [أريد] أضرب برندان [برقية] لكامل بيه ليشغل الأطواب من القلعة؟
فجاوبه الشريف الحسين بأن قال له: أنا إلى الآن لم أتحقق ممن أتت الثورة وأنا محصور في قصري فلم أعلم عن الثورة ومن أي مكان أتت, هل هم البدو جيعانين وهجموا على البلد يريدون أكل؟ فأنتم اصبروا حتى تكتشفون النتيجة. فسكت عنه وفي آخر ضحوة ذلك اليوم اقترب من قلعة جياد رجل من السودان ومعه زنبيله الذي يحمل به بالأسواق فلصقه لجدار القلعة وقال لهم: ارسلوا إلي حبل وازعبوني في زنبيلي هذا وأنا أخبركم عن الثورة.
فأدلوا عليه حبل وزعبوه كما تزعب الدلو من البير, فلما استقر عندهم أخبرهم تفصيلاً بأن الثورة من الشريف الحسين والعرب على دولة الترك! فحينئذ ضربوا برندان للحميدية ومن فيها يخبرونهم بخبر السوداني ثم ضربوا برندان آخر للقشلة في جرول يخبرونهم بخبر السوداني, فأول من اختبر [فهم البرقية] الشريف الحسين في مجلسه, بأن فهم ما يقوله البرندان وكان يجيد اللغة التركية, فمن ذلك استعد لضرب القنابل وهو في مقره, فكانت تضربه القنابل غدوة وعشية حتى وهن الركن اليماني من القصر, لأنهم لم يرون من القصر غير الركن هذا.
أما جدة فلم يدوم حصارها غير أربعة أيام ثم سلمت وذلك أن العساكر التركية ارتدمت كلها في قلعة ماؤها ملح أجاج, فأخذت أطواب [مدافع] المراكب الانجليزية من البحر تصليهم نيران حامية من مرسى جدة, فبعدما هدمت قلعتهم القنابل خرجوا من قلعتهم إلى الحُفر التي هم حفروها قبل الثورة والعطش يُذيب أكبادهم والشمس المحرقة فوق رؤوسهم ومن تحت أرجلهم حر الأرض شديد, والحضر والبدو مُقابلين لهم وقائدهم جميعاً الشريف محسن بن منصور, فمتى استطاعوا أن يصمدوا لهذه النكبات فاستسلموا.
وأما في الطائف فقد دام حصارهم ما يقرب من أربعة أشهر حتى أكلوا القطط والحمير والبغال ثم سلموا في شهر ذي القعدة. وأما المدينة المنورة فقد دام حصارها قريباً من سنتين, وهذه كوارث الحسين ونزعاته السيئة عليه من الله ما يستحق ولا نزيد على ذلك. وأما حصار مكة فقد سلمت القلاع بعد مُحاصرة تزيد عن شهر ثم بعد التسليم شرع الشريف الحسين في تسليم عساكر الترك وجعلهم أسارا بيد الإنجليز بدون اشتراط صدر عليه منهم, بل إن رجال السياسة من الإنجليز يقولون كان يقنعنا القيام بالثورة وإخراج الأتراك من الحجاز, وبعد لم نسأل اين ذهبوا, فلوا أسرهم هو عنده لكان خيراً له.
فياليت الرجل المُسلم الغيور لم يُشاهد ما شاهدناه من النكبات المؤلمة, وذلك أنه يؤتى بالعائلة [التركية] الواحدة فيفرق بينهم ويكون الزوج في معزل وحده وتكون الزوجة في معزل وحدها, ويجمعون أطفالهم في منزل منفصلين عن والديهم ولهم صراخ مُزعج وعويل يذيب أوتار القلوب لكل من يسمعه, ثم أنهم يُركبون الجمال ويجعلون الثلاثة على جمل, وكل يوم يركب منهم فوج لا يعرف بعضهم بعضاً ولا يدرون أين أولادهم ولا أين نساؤهم ولا أين إخوانهم.
وقد بلغنا أن امرأة فقدت ولدها وقد سفروه مع فوج غير الفوج الذى هي معه, فطلعت على الشريف الحسين وهو في مجلسه فقالت له: يا سيد البلد أنا سيدي فين؟ فقال ادفعوها من الدرجة, فدفعوها فأخذت تتكفأ على زلف الدرج حتى خضبت دماؤها عموم الدرجة! وأني لأظن أنها حينما تولت أسبانيا في أول القرن الثامن للهجرة على مسلمي الأندلس لم تفعل ما فعله الحسين بن علي مع عنصر الأتراك.
وكان في يوم الثورة نفسها قد جمع البدو وحرامية الريعان وكل لص من لصوص العالم فهدهم على بيوت الأتراك وأباح لهم ما يريدون, مع أنه يوجد كثيراً من بين الأتراك حمائل عنصرهم تركي ولهم تقريب 200 سنة وهم مُجاورين في مكة, فأباح لهم أموالهم وثيابهم وجميع ما يملكون, وكانوا من قبل أن يجمعونهم للترحيل هم وعائلاتهم يتسولون في الاسواق, فإذا وقفوا على صاحب دكان أو بيت فيقولون ارحمونا يا مُسلمين فحنا مثلكم مُسلمين ولسنا [مشركين], فمن يسمع منهم قولهم دمعت عينه وحزن قلبه فيقول لسان خالد [بن لؤي] مخاطباً الشريف: عجبت من جراءتك على الله وحلم الله عليك!
ولا تنس أيها القارئ إن ربك لبلمرصاد, فبعد هذه الفظائع كلها قد كال له ربه بصاعه الأوفى, فحينما تمت قوته فتح الله عليه باب الفتن والشرور والهموم المقلقة والحوادث المُترادفة والمُنغصة التي لا يملك منها دفعاً ولا رفعاً, وكانت القنبلة التي طالما زوى جنبه عنها وخشي من بأسها هي التي ثارت بجنبه فأحرقته وهو الشريف خالد بن لؤى الذي كان يكرهه الشريف الحسين ويقلاه, وكان يُحذر منه مثلما يحذر فرعون من موسى عليه السلام.».[1]
كما سعى الوهابيون في شيطنة الدولة العثمانية وروجوا عبر منابرهم بأن جيوشها جيوش روم كافرة, وكان هذا التلقين جاري منذ عهد أسرة آل سعود الأولى وحتى عهد عبد العزيز بن عبد الرحمن لكي يسوغوا مبدأ الخروج على دولة الخلافة ويُبرروا تآمرهم مع الإنجليز, وربما شهادة مؤرخ عنيزة تدحض أكاذيب السعوديين حول كفر وهرطقة الأتراك, حيث وثق شهادته تلك وهو الوهابي الهوى والعقيدة حيث يقول في مخطوطته - النجم اللامع للنوادر جامع - :
« وقد ادركت أناساً منهم [أي الأتراك] في آخر ملكهم وهم في الحجاز في زمن السلطان عبد الحميد الثاني كانوا يُحافظون على صلواتهم, وكان رؤسائهم وضباطهم يصلون ويأمرونهم بالصلاة حتى في صلاة التراويح في رمضان غير الفريضة, وكان قضاتهم يحكمون بالشريعة المحمدية على مذهب الإمام أبو حنيفة, ولا يخرجون عن الشريعة في أحكامهم قيد شبر, وكانوا يحرصون على المُراقبة على دخول أوقات العبادات وخصوصاً الصوم والحج, فلا يعتبرون إلا من شهد عندهم ومن حكم بالشريعة وفقه الله فإنه هو الحكم السماوي.».[2]
ويُدعم هذا القول ما ذكره محمد المانع وهو المُترجم الخاص بعبد العزيز بن سعود, فقد جاءت شهادته هو الآخر بمثابة: الحق ما شهدت به الأعداء, حيث وردت تلك الشهادات الخطية على ألسنة أتباع ومُريدي ألد خصوم العثمانيين, وهي كفيلة بتفنيد تلك الأكاذيب والافتراءات الرخيصة التي روجها الحاقدين من خصوم الأتراك, فيذكر المانع بكتابه بالقول :
« ولعله من غير الصحيح أن يوصف الحُكم التركي خلال معظم القرن التاسع عشر بأنهُ حكم قسري. فقد كان الأتراك مُسلمين, وكانت الجزيرة العربية المكان الذي ولد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم. ولذا مال الأتراك إلى مُعاملة سكانها باحترام يليق بمن يسكنون أرضاً مُقدسة, ومنحوهم قدراً كبيراً من الاستقلال الذاتي.
بل إنهُ لم يكن من غير المألوف أن يدفع الأتراك مُرتبات مُستمرة للزعماء المحليين دون أن يتوقعوا شيئاً منهم مُقابل ذلك. لكن ما أن قربت بداية الحرب العالمية الأولى حتى أصبح الحُكم التركي أقل تسامحاً وكرماً لظهور موجة جديدة من من الإداريين الشبان من أعضاء تركيا الفتاة  الذين حاولوا بحماقة أن يتدخلوا في أسلوب حياة العرب ويفرضوا عليهم عاداتهم التركية.».[3]
آتي الآن على فخري الدين باشا الذي رابط مع قواته في المدينة المنورة, وقاوم لآخر رمق, بينما خان الشريف حسين وأبنائه الأتراك بعد أن عاهدوهم على عدم الخيانة وأقسم الشريف حسين بنفسه في جوف الكعبة أنهُ لن يخونهم, ومع هذا خانهم؛ فكان جزاؤه من جنس عمله, مات حسيراً في منفاه القبرصي وقد أُصيب بسلس البول فيتبول على نفسه أمام الحاضرين.
 

ولم يسرق فخري باشا أموال أهل المدينة كما زعم هذا اللكع العراقي, بل بقيت صناديق الذهب والفضة والمجوهرات الخاصة بالوقف في صناديق محفوظة حتى سقوط حكومة الشريف حسين وأبنائه, وهناك شهادة مُسجلة صوتياً لمواطن سعودي حضر فتح تلك الصناديق, وسوف أرفقها هنا لإثبات كذب وافتراء ما يروجه أزلام آل سعود وكلابهم في ألمانيا حول تلك الفرية, حيث يروي المُحقق السعودي عايض بن عمر الرويس قائلاً :
 

أما من سرق الحجرة النبوية فهو سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود, الذي نهب مُقتنيات الحجرة النبوية, فباع بعضها ووزع الحلي والمجوهرات على زوجاته وبناته, وقام ولده عبد الله بن سعود بإرجاع ما تبقى من تلك المسروقات وهو عبارة عن صندوق صغير فيه بعض المقتنيات, وذلك بعد سقوط الدرعية وأخذه أسيراً إلى مصر, ثم قدمه إلى والي مصر محمد علي باشا لعله يشفع له عند الباب العالي, فقال له: خذ الصندوق معك وقدمه للسلطان لعله يعفو عنك, إذن من سرق مُقتنيات الأوقاف وحجرة الرسول هم آل سعود وليس الأتراك, بل السلاطين الأتراك وزوجاتهم هم من كانوا يتبرع بتلك الحُلي والأموال لتكون وقفاً عاماً للمُسلمين.
وأما عن فحري باشا فيعترف عبد الله الثاني أن استعصاء المدينة المنورة وعدم سقوطها مما أخر عملية سقوط بلاد الشام بيد الإنجليز, لأن جيوش الشريف كانت مُشتتة ومُنشغلة في حصار ومعارك المدينة المنورة, ولم يتفرغوا ويحشدوا كامل جيوشهم للتوجه مع الإنجليز نحو سوريا إلا بعد أن استسلمت قوات فخري باشا في المدينة المنورة, فيقول :
« وكان من رأيي الاستيلاء على الخط [الحديدي] ثم الاستيلاء على المدينة المنورة من قبل الجيوش العربية الثلاثة: الجنوبي والشرقي والجيش الشمالي الذي يقوده فيصل. ولكن لسوء حظ العرب انتشر الضغط على الأتراك على طول الخط الحديدي, ثم تقدم جيش الأمير فيصل واحتل العقبة ومنها أخذ يضيق على معان. فلو أسقطت المدينة المنورة في عام 1917م, لكانت الجيوش العربية الثلاث تتفرغ بمجموعها لفتح سوريا والاشتراك في مُحاربات العراق. هذا ما كان هناك ذلك الحين. ولكن فخري الدين باشا بقي في المدينة المنورة يُدافع بإصرار. وقد ورد كتاب من السير ريجلاند وينجت – المندوب السامي البريطاني بمصر بذلك الحين – إلى فخري باشا, يُخبره فيه: "إن الأتراك قد هزموا, وان الشام قد اُحتلت, وان مسؤولية إراقة الدماء من بعد الآن ستقع عليك شخصياً إن لم تستلم". فأجابه فخري باشا بالتركية بما نصه: إلى جناب الجنرال ريجلاند وينجت بمصر: "أنا عُثماني, أنا مُحمدي, وأنا ابن بالي بك, وأنا جندي, وأرخ".».[4]
كان فخري باشا غاضباً مقهوراً حينما أعلن استسلامه, وكان يضرب يداً بيد حينما جيء به إلى عبد الله بن الحسين وذلك دلالة على الأسف والقهر, ومع هذا فلم يُبد أي خضوع أو خنوع أو تذلل لآسريه, بل كان عزيزاً فخورا بموقفه كاسمه تماماً, فلم يُرشد على أي موقع عسكري من مواقع قواته رغم أن الأمر قد قُضي, ولم يقبل أن ينضم إليه بقية الضباط الأتراك الأسرى الذين خانوه وآثروا الاستسلام وأثروا على الروح المعنوية للجنود, وطالب بسرعة تسليمه إلى مُعسكر الاعتقال الإنجليزي في مصر, ربما لأنهُ كره أن تطول مدة إقامته في الحجاز وهو أسير بينما كان قبل ذلك هو الحاكم المُهاب المُطاع, وعن حال وردة فعل القائد العثماني فخر الدين باشا بعد تسليمه, يروي عبد الله بن الحسين عن تلك النهاية فيقول :
« وبعد ساعة وربع وصل [فخري باشا] إلى جليجلة وكنت في مركز القيادة, فقابله حلمي باشا ومعه الشريف شرف من موقف السيارة وجلباه إلي, فقال له صبري بك – بعد أن قدمه لي – هذا الأمير عبد الله. فحياني رافعاً يده إلى صدره تحية الدراويش, فحييته بمثلها, وأخذته إلى الغرفة فجلس جلسة المقيت الغضوب, فبادرته قائلاً: اننا قد علمناك شجاعاً في الحرب وأثناء الحصار, وأنهُ ليسرنا أن نراك صبوراً في هذه المُصيبة, مُصيبة الأسر. ففرك يده بيده وقال: لا أعارض وإن تشكلت حكومة عربية. قلت: لقد عارضت وانتهت المُعارضة, والآن فإن سمو ولي العهد المعظم الأمير علي في انتظارنا, فإذا سمحت نركب إليه, بعد أن تتناول الشاي وترتاح قليلاً.
ثم خرجت من عنده وتركت القائد إبراهيم الراوي معه, فقال له: هل كنت معنا [في الجيش العثماني]؟ أجابه بأن كنت معكم إلى أن أعلن صاحب الجلالة [الشريف حسين] استقلال البلاد العربية فالتحقت بأمتي. ثم رجعت وإذا به قد تناول الشاي, وهو كالنمر الهائج ينظر ما حوله فلا يرى مخرجاً. فقلت: لنركب. فقام معي, فنزلنا وإذا بسيارته هناك, فقلت: اركب – وعمدت إلى فرسي – فقال: بل تركب معي. فركبت معه, ثم اكتنفت الخيل السيارة, وتحركت بنا نحو المدينة المنورة. فلما اجتزنا جليجلة وإذا باستحكامات عسكرية, فقلت له: هل هذه الخطوط الأمامية لكم؟ فقال: مضى عليّ زمن ولقد نسيت.
فاستحمقت نفسي واستثقلت سؤالي وهو صامت. فقلت له مازحاً: لقد اتحفتم أخوي علياً وفيصلاً بناظورين [درابيل] عندما قدمتم المدينة المنورة, فأين حصتي؟ فضرب يداً بيد ثم مد يده إلى معطفه وراءه وتناول ناظوره الخاص فقدمه إلي, فخجلت جداً وقبلت الناظور على شرط أن يأخذ هو ساعتي التي معي كتذكار؛ فشكر ذلك مني, فدفعت إليه الساعة وكانت ثمينة ظريفة. ثم تبسط معي, وسرى عنه ما كان عليه من غم.
ثم انفجرت احدى إطارات السيارة فوقفنا لتصليحها, وإذ ببدويين يمُران ومعهما بعض ما اشترياه من السوق ببئر درويش؛ فقال أحدهما للآخر: من هؤلاء؟ فقال الثاني: هذا عبد الله ابن سيدنا, والآخر لعله فخري باشا. ثم تقدما مُسرعين نحونا, وبعد أن حيياني قالا عن فم واحد: هذا فخري باشا؟ فقلت: انهُ هو بعينه. فالتفت إليه أحدهما وقال: أأنت فخري باشا حقاً؟ قال: نعم. قال: امدد يدك أصافحك, فأنت الشجاع الباسل الذي صدنا عن المدينة المنورة شهوراً عديدة.
فمد يده إليهما وصافحهما, ثم قال لي: إن هذه لأكبر مُكافأة لي من رجلين لا أعرفهما ولا يؤملان مني أي صلة أو جاه, فإذن هي الحقيقة وبها الشرف لي – وامتلأت عيناه بالدمع –. فقلت: انهما من العرب, والعرب أمة شريفة تُقدر الناس حق القدر.».[5]
أما من خان الأتراك والمُسلمين عموماً وكان يُحرض الإنجليز على أهل العراق بسنتهم وشيعتهم, وعلى أهل الشام, ويكيد لأهل حائل وابن رشيد وناقم على الشريف وأبنائه, فيسرني أن أضع للكع ألمانيا بعض الوثائق البريطانية, من رسائل عبد العزيز بن سعود إلى أسياده الإنجليز وهو يدعوهم لاستخدام القوة والبطش مع أهل العراق, فيرى هذا العراقي المتطفل على التاريخ من خان هذه الأمة ومن قتل وشرد المُسلمين, وإن كنت أظن أنهُ مُجرد ذبابة إلكترونية سائبة تبحث عن معزب جديد ربما لتجد بعض الفتات لتعتاش عليه.
« بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل آل سعود إلى جناب الأجل الأمجد الأفخم ذو المكارم العلية والشيم المرضية حضرة صاحب السعادة الميجر اچ. آر. بي. دكسن قنصل الدولة البهية البريطانية العظمى بالبحرين دامت معاليه آمين.
بعد مزيد السلام التام والتحية والإكرام اللايق بذلك المقام, كتبكم الثلاثة الكرام مؤرخ[ة] \13\14\17 ذو القعدة سنة 1338هـ وصلت وما عرّف [به] جنابكم كان لدى مُحبكم معلوم وجمعنا جوابهم في كتاب واحد لموجب الكلافة, لأن أحمد الثنيان سافر للحج وكاتبنا الخصوصي معه بعض الأثر نرجوكم المسامحة, مخصوصا [بخصوص] أخبار ولد الشريف [و]أيضاً مسئلة [مسألة] أهل العراق مخصوصاً الشيعة؛ قد تقدم لحضرتكم التعريف من جهة ولد الشريف في كتابنا السابق, إن هذا أملنا فيهم دورة الخلاف وإنهم ما يقعدون راحة, لأنهم أولاً غشما وجميع حركاتهم وسكناتهم عند مأمورين الترك ورؤسا[ء] البدو.
وثانياً حسب المسموع عنهم أنهم ما يقنعون إلا بالعراق وسوريا, ولا شك الخير في الواقع إن شاء الله يمكن هالأمر في [من] حظ أهل سوريا, ولا شك مثل ما عرّفنا سعادتكم سابق[ـاً] أن الذي نحب أن سوريا [تكون] في يد صديقتنا الدولة البهية.
ثم عرف حضرتكم من جهة أهل العراق فلابد حقائقهم عند جنابكم, لكن أنا أُعرّف سعادتكم [بـ]موجب معرفتي.
إما من جهة الشيعة وعلمأ [علماء] العراق فلا يقطع عقولكم أنهم يقعدون راحة أو إنهم يحبون ولايتكم, قطعاً ما يحبون إلا ولاية الأتراك أو واحد [من] جنسهم؛ الشريف أو مثله [بـ]موجب الاعتقاد.
وأما من جهة أكابر العراق الذين تريدون منهم اصلاح العراق فهؤلاء؛ أما محبة الترك فربما أنهم ما يحبونهم لكن كون أنهم يحبون أن أهل العراق يسكنون ويصير أمان, فهذا من المُحال, لأن هذي [هذه] سياستهم سابق ولاحق, يحبون الحركة من الأهالي لأجل جلب مصالحهم من الحكومة, وهذي سيرتهم السابقة وعلى كل حال إن شاء الله لا بد تأكدون علمي كما تأكدتوه عن حركة الشريف هذي, ومن المُحال أن العراق يركد إلا بالذل والقوة.
هذا رأيي ولا بد أن الدولة البهية ومأمورينها عندهم من معلوماتهم ما ليس عندنا, هذا والرجا[ء] أن لا تقطعون عنا أخبار سلامتكم مع التعريف بما يلزم من جميع الأخبار الواردة عن الدول, ودمتم محروسين. 3 ذي الحجة 1338هـ [17 أغسطس 1920م]. (ختم عبد العزيز بن سعود).».[6]



وكما ذكرت فقد كان عبد العزيز ناقماً على أهل العراق والشام, لأنهُ رأى فيهم خطراً يُهدد رعاته الإنجليز في مشروعهم الإستعماري, فما انفك يحرض عليهم الإنجليز ويطلب منهم استخدام أسلوب القوة والبطش كي يرتدعوا وينصاعوا للإنجليز, حيث أرسل رسالة إلى القنصل البريطاني في البحرين الميجر هارولد دكسن يُحرض فيها الإنجليز على ضرورة التعامل مع العراقيين بالقوة والبطش لكي يرضخوا لهم, فيقول :
« بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود إلى جناب الأجل الأمجد الأفخم ذو المكارم العلية والشيم المرضية حضرة صاحب السعادة الميجر اچ. آر. بي. دكسن المفخم قنصل الدولة البهية البريطانية العظمى بالبحرين دام مجده آمين.
بعد اهدا[ء] مزيد السلام التام مع مزيد التحية والاحترام أخذنا كتابكم المكرم مؤرخ \ 30 ذو القعدة سنة 1338هـ  وصل وما عرّف [به] جنابكم كان لدي مُحبكم معلوم مخصوصا [خصوصاً] تعريف حضرتكم من جهة قبول الأتراك للصلح ودخول المليين معهم, فهذا نراه من حسن توفيقهم إلا أن تلحقهم الشقاوة.
ثم معلوم جنابكم اني لم أزل أراجعكم في مكاتيب أنتم والمأمورين الذين قبلكم في البحرين واتلا ما يصير عرّفت حضرتكم شفاهاً بأحوال العرب وسياسات أمرائهم؛ وتبيّن لكم [صحة] بعض أقوالي في سوريا وفي العراق, ثم الآن أحبيت أعرض لسعادتكم بقايا كلام ونضر [ونظر] رأيته؛ الأول انكم ألزمتوني بالمصالحة مع الشريف وهي في الحقيقة أكبر غش لي ولكم وأنا أشرح لكم ذلك, [فأنتم] تفهمون أن الشيطان يغوي الناس والشيطان يتعلم من الشريف [حسين], ولا تهاونون أمر الشريف في السياسة الفاسدة, ترا ما بطل آماله ولا اظهره رأس إلا أمرين, الأول الله ثم نيته الخبيثة, والثاني أنا عاكسته, وأنا أعرّفكم إني إذا تصالحت أنا والشريف ما هو واثق مني وأنا ما أنا واثق منه إلا بعهود ومواثيق, فإذا صار بيني وبينه عهود ومواثيق وجرا [وجرى] منه شي من الأمور, كيف أخونه؟ هذا أمر ما يقبله ديني ولا شيمتي وهو الخيانة.
والثاني ملزوم إذا تصالحنا حنا وإياه تنطلق الرِجل بيننا وبينه, ومعلومكم بحال مكة إن كل يَردها من أكابر العرب ورؤسائهم ويخيل في عيونهم أمور كثيرة من طرف دينهم ودنياهم لأن دسايسه كما ذكرنا تدرك أمور كثيرة, ثم لا بد في بعض الأوقات يطلب بعض أموره الذي هو مرتكب اليوم هو وأولاده ويستنجد بي وبرعاياي, فإن حذرت رعاياي منه, صار لهم عليّ حجة, قالوا كيف تدخلنا معه وتوثقنا منه ويوم قام في أمر دين تخالفه! فإن أبيت ملزوم يصير خلل في داخليتي, فإن ساعدت في بعض الأمور صار نقص عليّ من طرفكم وأيضاً من طرف نفسي لأني ما أنا موثوق منه قطعاً وأنتم سبب الأمر الذي بيننا وبينه.
فالآن أنظروا في هالأمر وراوزوا المصلحة وهذا عذري منكم إذا بينت لكم, فإما من جهة مسئلة [مسألة] الشريف ومن تعلق به وأمرا[ء] العرب مثل ابن رشيد وابن صباح وأجناسهم وأيضاً المُنتسبين لدين الشيعة وأغلب علما[ء] أهل الأمصار, انهم ما يقعدون راحة عن حرب الدولة البريطانية وحلفائها, ولو هدءو [هدؤوا] في حال من حال لازم عند أدنا [أدنى] حركة يتحركون [ضدها], لأن اعتقادهم ان ألي يغط القلم في الدواة للنصراني أنهُ يكفر بذلك, واعتقاداتهم أكبر وأعظم غير هذا, مع أنهم رأس الكفر الصريح وأنتم تحامون وتبينون الضواهر [الظواهر] للعرب إنكم مُصلحين أحوالهم في بعض الأمور, وهذا أمر إن كان هو غُبي [غُيب] عليكم فالأمر مشكل, فإن كان مقصودكم بهذا سياسة؟
فهذي سياسة ما يصير لها عمل تطول الدنيا أو تقصر, إلا إن كان تنضرون [تنظرون] في أمر ثاني تستريحون به ويستريحون به العرب, مع أنه هالذي تدعون إنهم عرب لا من أهل العراق ولا من أهل سوريا وغيرهم كل أمورهم مُخالفة العرب, لا في دينهم ولا دنياهم, بل كثيرين الحركة قليلين البركة, وهالناس الذي متؤمرين ومتكبرين فيهم أخرجوهم من الأمرين, لا صاروا أناس أمرهم دين وحكموا الشريعة, والشريعة تريحهم من أمور كثيرة, ولا صاروا أهل دنيا وعملوا عمل الدول ورتبوا أمورهم بالقوانين.
فالمقصود بذلك إني بينت هالأمور إشارة نصح ولصلاح الجميع وأيضاً ذب عن نفسي فيما بعد, وهذا شي بخاطري وإلا الحروة أنه يروح مع المتقدم, هذا [ما] لزم رفعه لمعاليكم ودمتم محروسين. حُرر \ 15 ذي الحجة 1338هـ, [29 أغسطس 1920م]. (ختم عبد العزيز بن سعود)».[7]

صورة من رسالة عبد العزيز آل سعود الأصلية الموجهة للقنصل البريطاني في البحرين الميجر هارولد دكسن يبلغه فيها أنه لا يُمكنه المُصالحة مع الشريف ويحرض الإنجليز على أهل العراق وسوريا.


وهنا يُحاول عبد العزيز بن سعود أن يثبت لأسياده الإنجليز أنهُ الأشد ولاءً لهم, وأن بقية العرب يميلون للأتراك, وبالنسبة لبقية العرب فهو يعتبرهم إما مُحبين للأتراك أو طامعين بالسلطة! هكذا كان عبد الإنجليز يسوق نفسه أمام القوات البريطانية التي تحتل أراض العرب والمُسلمين, فيقول في رسالته إلى الميجر دكسن :
« بسم الله الرحمن الرحيم
 من عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود إلى جناب الأجل الأكرم ذو المكارم العلية والشيم المرضية حضرة صاحب السعادة الميجر أچ. آر. پي. دكسن المحترم (سي. آي. اي.) قنصل الدولة الفخيمة البريطانية العظمى بالبحرين دامت عاليه آمين.
السلام التام والتحية والإكرام الباعث لتحرير كتابنا الودادي الفحص عن مزاج سعادتكم .. أحوالنا من فضل الله تسركم من كل الوجوه فلم يحدث أمر ذو أهمية يستحق ذكره لسعادتكم قدمنا إلى حضرتكم كتاب لصديقي سمو صاحب الشوكة والإجلال سر پرسي كاكس المفخم نائب جلالة الملكة المُعظم؛ تشرفون عليه فّإذا استحسن نظر سعادتكم تقدمونه إلى سموه وتلتمسون الجواب من فخامته أن يبعثه بغاية العجلة.
والمقصد من ذكرنا أن سياستنا صار علينا منها إشكال من قبل الدولة الفخيمة ومن قِبل العرب. أما العرب فعلى قسمين: أحد يحب الأتراك وأحد يريد الرياسة؛ والجميع لم [لن] يدركوا مقاصدهم إلا بزوال الحلفاء عن الجزيرة [العربية].
فنحن صايرين عضد الدولة لا نقبل نظرهم بأتراك ولا رؤسهم؛ لهذا يبغضون[ـا]؛ وأيضاً الدولة البريطانية صار معها بعض إشكال من بعض تزويرات أهل الأغراض؛ بهذا الموجب ضاعت سياستنا .. العرب راحوا على أفكارهم, والدولة لم تزل تلومنا في بعض الأحوال.
فبهذا السبب حبينا نعرف الحقيقة .. إن الدولة البريطانية إما تعتمد علينا ولا يدخلها شك من قِبل أهل الأغراض أو تأذن لنا في المصافاة مع العرب المخالفين حتى ندرك الراحة ورضاء الدولة البريطانية.
من عندنا سمو فخامة الوالد والأبناء سعود وفيصل وإخوانهما والإخوان ينهون جزيل السلام, هذا ما لزم بيانه لمعاليكم دمتم محروسين. 17 ربيع الأول سنة 1339هـ - [28\11\1920م. (ختم عبد العزيز بن سعود).».[8]

صورة تجمع أمير حائل الشاب سعود بن عبد العزيز الرشيد مع القائد العثماني فخري باشا قرب المدينة المنورة 1917.


وفي رسالة موجهة من القنصل البريطاني في البحرين الكابتن پرسي جوردن لوك إلى عبد العزيز, ينقل فيها تلغراف عاجل وصله من قِبل پرسي كوكس, يُبلغ فيه شكر حكومة الهند لعبد العزيز على أمنياته الطيبة وعلى تهنئته للقوات البريطانية باحتلالها بغداد, ويُعلمهُ أنهُ سيبعث بتهنئته إلى الإمبراطور - ملك بريطانيا شخصياً بواسطة وزير الخارجية البريطاني, ومما جاء في رسالة القنصل البريطاني لعبد العزيز :
To bin Sa'ud

I have the honour to inform Y. E. that I have received a telegram from the Hon'ble Sir Percy Cox instructing me to say that the Government of India have desired him to convey to Y. E. their warmest thanks for your congratulations on the capture of Baghdad and wishes for the future success of the British Arms. The have further desired him to say that Y. E's message is being duly communicated to His Majesty the king Emperor through the Secretary of State.
This is what had to be said etc.

نمرة 417 \ 1917
......... الشيخ سر عبد العزيز بن عبد الرحمن ال فيصل ال سعود (سي آي أيه) حاكم نجد المُفخم.
بعد السلام ............................................ على الدوام.
بالشرف نُعرّف سعادتكم بأن قد وصلنا تلغراف من صاحب الفخامة سر پرسي كاكس؛ يُرشد تعميمه أن أقول: أن حكومة الهند قد طلبت منه أن يُبلغ سعادتكم أفضل تشكراتها لتبريكاتكم على قبض بغداد, [وأمنياتكم] وإراداتكم نجاح المستقبل [لـ]لجيوش البريطانية. [الـ]حكومة المُشار إليها كذلك طلبت منه [پرسي كوكس] أن يقول: أن رسالة سعادتكم كما يجب الآن تُرسل إلى جلالت [جلالة] المُعظم الملك الإمبراطور بتوسط ناظر الدولة. هذا ما لزم ودمتم محروسين, والسلام. حُرر في 4 من شهر مي [مايو] سنة 1917م مُطابق في 12 رجب سنة 1335هـ. (توقيع القنصل).».[9]

صورة من الرسالة الأصلية للقنصل البريطاني في البحرين الكابتن پرسي جوردن لوك ينقل فيها شكر وتحيات پرسي لعبد العزيز بن سعود على تهنئته باحتلال الإنجليز لبغداد


ومن أراد الاطلاع على مزيد من الوثائق الخاصة بمُراسلات عبد العزيز بن سعود مع أسياده الإنجليز يمكنه الإطلاع على كُتبي :



[1] مخطوطة : النجم اللامع للنوادر جامع \ تأليف: محمد العلي العُبيد.
[2] نفس المصدر .
[3] كتاب : توحيد المملكة العربية السعودية \ تأليف: محمد عبد الله المانع.
[4] كتاب : عبد الله بن الحسين – مُذكراتي.
[5] المرجع السابق نفسه
[6] رسالة من أرشيف وزارة الهند - Indian Office المكتبة البريطانية-لندن\ تحت رقم: IOR_R_15_2_37_0273.
[7] رسالة من أرشيف وزارة الهند - Indian Office المكتبة البريطانية - لندن\ تحت رقم: IOR_R_15_2_37_0319.
[8] رسالة من أرشيف وزارة الهند - Indian Office المكتبة البريطانية- لندن\ تحت رقم: IOR_R_15_2_39_0805.
[9] رسالة من أرشيف وزارة الهند - Indian Office المكتبة البريطانية-لندن\ تحت رقم: IOR_R_15_2_33_0258.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

صنائع الإنجليز - بيادق برسي كوكس وهنري مكماهون

نفق لص اليمامة وبقية الديناصورات السعودية تترقب

مسلسل «قيامة ارطغرل» ولادة جديدة للدراما التركية الهادفة