أما آن الأوان للنظام السوري أن يرحل؟

من لا يستلهم العبر من التاريخ خائب ومن لا يقرأ الأحداث أحمق ومن لا يتعظ من مصائب غيره أخرق ولا عزاء للمُتخاذلين
حينما تستنعج الأسود المزعومة عليها أن تتنحى جانباً أو تبحث لها عن بيئة مُناسبة للخراف تسوسها حسب مواصفات القطيع
إذا أردت أن تكسر همة الأمم العنيدة عليك أن تجوعها وتجعل جل اهتمامها البحث عن لقمة العيش وبهذا تكون قد أركعتها
بعد تجويع الشعب العراقي وكسر عزيمته بدأت مرحلة تجويع الشعب السوري ومخطأ من يظن أنه سينجح بتجويع النظام السوري
زرت دمشق قبل ثلاثة أعوام وكانت تلك الزيارة هو الأولى لي لبلاد الشام أو سوريا بمفهومها القُطري (بضم القاف), وكانت رؤية العاصمة دمشق للوهلة ألأولى بالنسبة لي رؤية كئيبة وبائسة, وشعرت أنني أمام عاصمة مزدحمة هرمة وشعب مُرهق يسير دون هُدى, وكما قيل أن ترى بعينك خير من أن تسمع, كتبت حينها مقالاً طويلاً عبارة ن تقرير صحفي يُصور تلك الحالة التعيسة, حيث وثقت فيه مُشاهداتي ودونت فيه ملاحظاتي, وأكدت حينها أن النظام السوري وإن نجح نجاحاً باهراً في سياسته الخارجية, إلا أنه فشل فشلاً ذريعاً في إدارة السياسة الداخلية.
كنتُ حينها أتوقع أن النظام السوري برئاسة بشار الأسد سوف يلتفت لمُعاناة شعبه ويُصلح ويُحسن من أوضاعهم المعيشية ويوسع مجال الحريات ويسمح بمزيد من الحريات, مُعتمداً في ذلك على نجاحه في السياسة الخارجية وخروجه من عنق الزجاجة الدولية, ومؤملاً على موقف بشار حينما رفض المُشاركة في غزو العراق في مؤتمر شرم الشيخ, وذلك الموقف كان يُحسب له.
وحينما زرت سوريا لأول مرة في حياتي وأنا العابر المار مرور الكرام لاحظت أن ناراً تستعر وتتلظى من تحت الرماد, وذلك من خلال رصدي السريع لحالات التذمر السائدة والشكوى الدائمة من تردي الأوضاع الاقتصادية وتفشي حالات الفقر وارتفاع تكاليف المعيشة, بينما أزلام النظام وعيونه الذين كانوا يرقبون كل ساكن ومتحرك يبدو أنهم كانوا كالعادة يرفعون له التقارير اليومية البراقة زاعمين أن الأمور مُستتبة, وكل شيء تمام, وأن الشعب يعيش في رغد وراضٍ عن النظام وأن كل الجماهير (الهتيفة) تصدح بشعار (منحبك) يا بشار!!
وكنت حينها أتوقع أن الرئيس السوري أذكى من تلك الترهات وتلك المهرجانات النفاقية المُرتبة, وذلك لأنه مازال رئيساً فتياً ومُتابعاً للأحداث وقطعاً سيقرأ ما يدور حوله ويطلع على التجارب السابقة ويتجنب الأخطاء الكارثية التي وقع فيها غيره من الرؤساء والحكام, وافترضت أيضاً أن بشار ألأسد قارئ جيد للأحداث ومطلع ولديه حس أمني لمعرفة نبض الشارع السوري, وسوف يسارع بمعالجة الكوارث الداخلية, كونه رئيساً شاباً وطبيباً للعيون (وغيرها من حجج اتضح بطلانها لاحقاً), ولابد أن يكون حكيم العيون عادةً ذو خبرة كبيرة في تشخيص أسباب العمى والرمد وحتى الغبش الذي يُصيب عيون الرؤساء والحكام العرب قبل غيرهم.
لكن ما جرى أخيراً أثبت أن بشار الأسد لا يختلف عن بقية الحكام الطغاة, وأن الأمور تدار في تلك الأنظمة القمعية المُستبدة من قبل الأقارب والأتباع والأزلام, وأن الرئيس هو مُجرد صورة مُجملة ومرتبة ليكون واجهة النظام, بينما جل اهتمامه منصب حول أموره العائلية والانشغال بالشؤون الخارجية فقط, أما الشؤون الداخلية فتركها لبعض أفراد أسرته المُتنفذين وهم من عُتاة المُجرمين والفاسدين, فتحولت سوريا إلى ضيعة خاصة لآل الأسد حالها حال بقية العزب العربية والمزارع الخليجية.
ويبدو أن ثالوث النظام السوري بدءاً من الأسد الأب إلى بشار الابن إلى أصف شوكت الروح المقدسة, فهموا وتأقلموا على أن مفهوم الصمود والانتصار يعني أن تبقى سالماً مًستديماً على دفة الحكم بأي طريقة كانت, وليس أن تستعيد الجولان المُحتل مثلاً, وكانت وجهة نظرهم السائدة أن الشعب السوري هو شعب درويش وقنوع يرضى بأقل القليل, وبإمكانه أن يربط حزام الجوع على بطنه أكثر فأكثر حتى ينقطع وسطه, وأن هذا الشعب المغاوب على أمره قادر على العيش على مادة الفول والحمص والمكدوس إلى أن تقوم الساعة, وأن المواطن السوري بإمكانه أن يوفر ما يحصل عليه من بقايا المازوت فيتدفأ في يوم ويبرد في آخر حتى يمر الشتاء القارص.

هكذا كانت نظرة النظام السوري لأبناء سوريا, أو بالأحرى هكذا كانت نظرة عائلة الأسد للشعب المملوك, ولهذا نجد أن أسرة الأسد عاشت حياة ملكية وأقاربهم وأصهارهم عاشوا حياة المليارديرية بينما أبناء الشعب السوري عاشوا عبر مرحلة ملوك القرداحة حياة الكفاف والشقاء.
ولهذا فإن الشعب السوري كان يعيش حالة حصار اقتصادي وتضييق معيشي منذ عهد الأسد الأب ولحد الآن, وحتى حينما خرج الأسد الابن سالماً من المُخططات العدوانية للمُحافظين الجُدد, وذلك بعد أن غاص الاحتلال الأمريكي في الوحل العراقي, لم يفكر بشار أن يُكافئ ذلك الشعب السوري الأبي الصامد الصابر الوفي الذي وقف معه ومع أبيه في السراء والضراء طوال أكثر من أربعة عقود!
بل كان بشار يُريد من هذا الشعب المزيد والمزيد من التضحيات والتحدي والوفاء والصمود والوقوف بوجه أعداء النظام, وغيرها من شعارات حزب البعث الطنانة, وكأن الشعب السوري شعب خارق للعادة ومعدوم من الأحاسيس وليس لديه تطلعات ولا يتمنى أن يعيش حياة رغيدة ويحيا حياة كريمة وسعيدة, وأن العيش الرغيد والحياة الباذخة لا تليق إلا بأسرة الأسد ذات التاريخ الموغل في الفقر والتعثير!
ليس هذا فحسب فقد كان النظام السوري يتظاهر منذ عهد الأب وحتى الابن أن سوريا بلد فقير ومعدم, وهذا الادعاء باطل وغير صحيح, ولو كان هذا الكلام صحيح لما خرج علينا من القرداحة أكثر من عشرة مليارديرات خلال بضع سنوات فقط, على رأسهم رفعت الأسد ورامي مخلوف وآصف شوكت ووو الخ.
إذن الترويج لفكرة أن سوريا بلد فقير هي أكبر فرية في تاريخ الإنسانية, وقد استغل حافظ الأسد تلك الحجة في عمليات الاستجداء من دول الخليج وذلك من خلال توفير أسباب مقنعة لأصدقائه الخليجيين بالقول أن سوريا لا تملك بترول وعليه فهي بلد فقير فأستمرأ ذلك الأسلوب لكسب المساعدات دون أن يريق ماء وجهه كما كان الملك حسين يفعل.
فأصبحت هنالك فكرة سائدة مفادها أن سوريا بلد فقير وأن سبب انخفاض الدخول وصعوبة العيش لأن البلد يخلو من البترول, وتلك أيضاً معلومة مُضللة؟
لأن سوريا فيها قدر لا بأس به من البترول, وهو ما يكفي لسد احتياجات الشعب السوري,ويفيض منه عدة مئات من آلاف البراميل للتصدير للخارج.
كما أن سوريا بلد غني بعقول أبنائه وطاقاته البشرية الهائلة, وأيضاً غني بوفرة مياهه وبمحصوله الزراعي وثرواته الحيوانية وكذلك ثرواته النفطية والمعدنية وبأماكنه الأثرية والسياحية.
ثم وجد الأسد الأب طريقة أخرى لجلب المال بالعملة الصعبة من خلال تصدير الأيدي العاملة والتقنُقراط السوري إلى دول الخليج العربي, فرفع عن كاهله مسؤولية الصرف على هؤلاء وجعلهم كالدجاجة التي تبيض له ذهباً من خلال التحويلات المالية من العملة الصعبة, فبات يجني ملايين الدولارات سنوياً من خلال الحوالات النقدية لهؤلاء السوريون المغربون عن بلادهم لغرض تحصيل لقمة العيش.
وفات الأسد الأب والابن أن أبناء الشعب السوري المُغتربين من خلال سفرهم لدول الخليج واحتكاكهم مع الشعوب الأخرى المرفهة, ستبدؤون بالتذمر من خلال المقارنة بينهم وبين شعوب تلك البلدان التي تخضع تحت نفوذ أمريكا, وسيبدأ الكثير منهم يتساءل إلى متى سنبقى ندعي الصمود والمواجهة واسترجاع الأرض المُغتصبة, ومتى سنختار زمان ومكان المعركة حتى نعيش حياتنا الطبيعية, وما الفرق بين دويلات الخليج المرتهنة لأمريكا وبيت حافظ الأسد حليف أمريكا والذي هب بقواته مع جيوش نورمان شوارسكوف لتحرير الكويت؟
حتى موقف بشار الأسد الرافض لغزو العراق, سرعان ما تغير حينما شعر أن كرسيه بات في خطر, فأصبح يقدم الخدمات الاستخبارية للجيش الأمريكي ويطلب منهم أجهزة حديثة لمراقبة الحدود السورية العراقية كي لا يتسلل منها (الإرهابيون) حسب الوصف السوري, وقام أيضاً بتسليم مسؤولين عراقيين من أتباع النظام العراقي السابق ومنهم أخوي صدام حسين وطبان وسبعاوي, وأصبح بشار منغمس في مشروع الاحتلال الأمريكي للعراق, وافتتح سفارة سورية في المنطقة الخضراء وبدأ وليد المعلم يزور بغداد, ناهيك عن أن أغلب قادة حكومات بول بريمر ورؤساء جمهوريات المنطقة الخضراء كانوا زبائن دائمين في حي السيدة زينب وبرعاية حافظ الأسد.
وقد كانت هنالك فرصة تاريخية للرئيس السوري بشار الأسد أن يسترد فيها الجولان المُحتل, ويُصبح رمزاً للسوريين ولربما لكثر من العرب أيضاً, لكنه ضيع تلك الفرص الواحدة تلو الأخرى, بسبب أن هنالك من روج له فكرة أن البقاء بسلام وديمومة في سدة الحكم هو يُمثل الانتصار الفعلي للنظام!
ويبدو أن بشار الأسد قد أدمن تلك الفكرة واعتقد أن مفهوم الفوز والتمكين يعني البقاء في السلطة إلى أبعد مدى والرسوخ في الكرسي وعدم الزوال, ونسي أن هنالك أراضِ سورية مُحتلة منذ أربعين عاماً تنتظر ساعة الحسم, وسط تكاسل ولا مُبالاة من قبل النظام السوري السابق والحالي, أي من قبل الأب والابن, حتى أن إسرائيل تمادت أكثر من مرة واعتدت على الأراضي السورية وكان آخرها قصف مشروع مفاعل نووي سوري يقع في منطقة دير الزور, ثم قامت الطائرات الإسرائيلية بعد فترة بالتحليق فوق قصر الرئاسة السوري, وبقي بشار في عجز وصمت رهيب!!
وكان بإمكان بشار أن يخوض حرباً خاطفة ومُباغتة يسترجع فيها الجولان وما هو أبعد من الجولان وفي ساعات معدودة, ويقلب الطاولة على رأس الجميع, ويُربك كل الأطراف الدولية والإقليمية في المنطقة, خصوصاً وأنهُ يملك جيشاً كبيراً مُدرباً وقوات مُتحفزة ومُرتاحة, والجيش السوري كان بكامل عدته وعتاده, ولم يخض أي حرب منذ أربعة عقود.
وأنا أجزم لو أن بشار الأسد بادر بخوض الحرب لاسترجاع الجولان سوف يستميت الجيش السوري في حربه المُقدسة تلك, وسيستقتل في الدفاع عن المُقدسات والأرض والعرض, بل سيأتيه المتطوعون من كافة أرجاء العالم, وأنا على ثقة أنهُ سيخلص أراضيه من الاحتلال على أقل تقدير.
كانت فرصة بشار الأسد سانحة في حرب 2006 بأن يشن هجوماً على إسرائيل لاسترجاع الجولان, خصوصاً أن إسرائيل كانت مشغولة مع حزب الله, وأصيبت بصدمة من خلال عدم مقدرتها على التقدم.
إلا أن بشار كأبيه استمرأ الخنوع وعشق الراحة وأحب الدعة والركون, فضيع فرصة تاريخية عظيمة لن تتكرر بعد الآن, وبدلاً من أن يخرج دباباته ومدرعاته صوب جبهة الجولان وجهها نحو صدور أبناء شعبه العارية!
ذكرني موقف بشار المتخاذل أمام إسرائيل طوال العشر سنوات, بموقف صدام حسين حينما بدأت القوات الأمريكية تحتشد على حدود الكويت لغرض غزو العراق وكانت تصرح بذلك علانية وكل يوم تجلب المزيد من القوات والمعدات, بينما صدام حسين كان مُتردداً ويترقب, وربما خانه تفكيره فتوقع أنهم سيتركونه وشأنه ويعودون لديارهم, ونسي أنهم تجشموا العناء وجاءوا بقضهم وقضيضهم ليس للتنزه بل للقضاء عليه وعلى نظامه.
وقد أطلقت حينها على تلك الحالة مُصطلح الاستنعاج؟
حيث يُصاب البعض بحالة من الخوار والجبن والتردد, يسميها العامة (أم الركب) أي تصطك ركب الإنسان, فيُصبح شبيه بالنعجة حينما تستشعر وجود الذئب.
والعرب يقولون في أمثالهم (استنوق الجمل) وأنا أقول استنعج الذئب.
وعليه فكل رئيس دولة يدعي أنهُ قائد أمة أو زعيم بلد ويبقى خائراً ولا يستطيع أن يُبادر ويخوض حرب تحرير أو حتى حرب دفاع مشروع, فيستنعج ويُصاب بأم الركب, عليه أن يتنحى جانباً ويترك المقعد لمن هو أجدر منه ويكون قلبه أشجع من قلوب المُرتعدين, ويبحث له عن مكان آخر ربما يجد فيه ضالته.
وبسبب ذلك التخاذل والخوف على الكرسي وحب الدعة والركون والتردد بات الشعب السوري في موقف المُتململ والناقم, فإلى متى سيستمر ذلك الوضع المُرهق والمُعلق والمُزري, وإلامَ الصمت والخنوع, وأراضيه مُحتلة أمام عينيه ووضعه المعاشي متدهور بحجة الصمود الزائف!
فحتى المرضى الذين يُعانون من السقم المُستعصي والأمراض القاتلة, وبشار طبيب ويعرف جيداً مُضاعفات هذا الأمر, فحينما تضيق على المريض كل سبل العلاج وتستمر مُعاناته, يسعى بكل ما استطاع لحسم ذلك الوضع المؤلم, لكي ينهي تلك المُعاناة الطويلة المُستمرة مع الأوجاع والآلام المُستعصية, ولهذا فلا يوجد شعب في العالم يبقى متوجعاً طيلة 40 عاماً والعلاج بين يديه, أو قاب قوسين منه أو أدنى لكي يسترد عافيته ويُعيد حقه المشروع, بينما خسائره قد بلغت في سنوات المُعاناة أضعافاً مُضاعفة!!
وربما غاب عن بال بشار الأسد ومُستشاروه أن أغلب الأنظمة العربية الخانعة والخليجية منها تحديداً تشتري صمت ورضى شعوبها ببريق المال, وتسترضيهم بتوفير الرفاهية لكي يتجاهلوا خياناتهم المتواترة ولكي يغضوا الطرف عن تآمرهم مع أمريكا والغرب, بينما الأنظمة التي تزعم الصمود وتدعي المُقاومة هي أنظمة مادية شرهة وشحيحة تحرم شعوبها من الحياة الكريمة وتجوعهم, وتجعلهم فريسة سهلة لمُغريات تلك الأنظمة المتآمرة, بينما أنظمة الصمود والتحدي المزعومة تعيش ملذات الحياة وتتسوق من أرقى المراكز التجارية ودور الأزياء في العالم, وترفض أن تنزل من برجها العاجي لتبادر بالتعاون مع شعبها لحسم المعركة المزعومة لتنهي تلك المُعاناة الطويلة.

وكل من يدخل للعاصمة السورية دمشق, سيرى البؤس الظاهر على مُحيا الناس, وأيضاً سيرصد ملايين من الصحون اللاقطة (الستلايت) على سقوف المنازل حتى أصبحت دمشق وكأنها وكالة ناسا أو شبكة عناكب من تلك الصحون الفضائية المُتراصة والموجهة نحو السماء, وكل تلك اللاقطات هي موجهة للقنوات الأجنبية وخاصة القنوات الخليجية التي تبث ثقافة الاستهلاك والرفاهية والتعري, وبعضها يمارس سياسة الفرمتة وغسيل العقول من خلال أمركة ثقافة الشباب, ولهذا سلم أغلب السوريون عقولهم للثقافة الخارجية المستوردة عبر تلك الأٌقمار الصناعية.
أحد الصحفيين الغربيين عندما شاهد تلك الصحون اللاقطة تملأ سطوح المنازل في دمشق, قال :
(شعب لديه كل هذا الكم الهائل من الصحون الفضائية اللاقطة, قطعاً سوف لن يرضى عن هكذا نظام).
أما الجاليات السورية التي أجبرتها الظروف المعيشية الصعبة للعمل في دول الخليج, فهم في حالة غربة واغتراب مغمسة بالإهانة والتعب النفسي, وهم على الدوام في صراع ومُقارنة ضيزى بين معيشتهم الضنكى بحجة أنظمة المُمانعة والمُقاومة والصمود المزعوم وبين معيشة أولئك التابعين للركب الأمريكي في دول الخليج من أنظمة التطبيع, فأصبحوا يعيشون في وضع مُحبط جداً وصراع نفسي قهري قاتل, فلا هم حرروا الأرض المُحتلة من قبل إسرائيل منذ عقود وطردوا العدو وانهوا ذلك الكابوس الأزلي المُعلق بعد مرور 40 عاماً على سياسة المُمانعة والصمود وعاشوا حياتهم؟
ولا هم تحولوا إلى عملاء وأذناب للغرب حالهم كحال بقية شعوب أنظمة دويلات الخليج العربي, مادام السفير الأمريكي هو الحاكم بأمر الله سواء في الرياض أو حتى في دمشق, ولهذا تجد أغلب السوريين الذين عملوا في الخليج عادوا وهم ناقمون على الأوضاع الداخلية وباتوا متذمرين من تشدقات النظام السوري الجوفاء بالمقاومة والصمود, وتولدت لديهم حالة يأس سلبية ولدت مشاعر متضاربة لديهم دفعتهم للإعجاب بأنظمة الخليج المُتأمركة, وهذه النقطة لم ينتبه لها النظام السوري المشغول بشفط المال العام وإفساح المجال لآل القرداحة بالنهب والسلب العلني.
بل حتى الفنانين السوريين من مُمثلين ومطربين ورسامين حينما كانوا يزورون بلد كالإمارات مثلاً, كانوا يُصابون بصدمة حضارية مرجعها البنية التحية والبنايات الأسمنتية الشاهقة, ولم يأبهوا إذا كان هنالك عقول عبقرية هناك أو لا, فقد كان السوريون يدهشون لرؤيتهم ناطحات السحاب العملاقة والمراكز التجارية, وعندما يُشاهدوا الأبراج السكنية الحديثة والسيارات الفارهة والمترو يشعرون أنهم تقوقعوا في بيئة متخلفة وبنية تحتية معدومة, وهو الأمر الذي جعل علي فرزاد مثلاً الذي عمل في بعض الصحف الكويتية أن يقلب ظهر المجن لمعلمه بشار, ونفس الدافع جعل المُطربة السورية أصالة نصري التي كانت تتغنى بانجازات حافظ الأسد وتتمنى له الحماية الإلهية, وتتغزل بالأمل الواعد لولده بشار, أن تنقلب فجأة وتلجأ للإمارات وتبدأ بالتظلم في أن النظام السوري يتهمها بأنها عميلة للنظام القطري.
ولا ننسى وضع الإعلاميين السوريين العاملين في القنوات الفضائية الإخبارية الخليجية, كقناة الجزيرة أو العربية أو غيرها من قنوات أخرى, وكيف تغير تفكيرهم ومزاجهم العام وأصبحوا لا يطيقون تنظيرات وشعارات النظام السوري المُستهلكة.
المُزري أن النظام السوري هو الآخر قد تحول من نظام اشتراكي خدمي, إلى نظام رأسمالي متغول وشره وبغيض, وأن رؤوسه الكبار وأهم ركائزه أصبحوا يقلدون رفاه وعجرفة أمراء ومشايخ دويلات الخليج, فبات رامي مخلوف مثلاً يسعى لأن يكون مليارديراً على شاكلة محمد بن راشد المكتوم أو شبيهاً للوليد بن طلال ولكن بنسخة سورية مشوهة.
فأصبح مخلوف فجأة وبدون سابق إنذار يملك المليارات من الدولارات ويُدير عشرات الشركات التجارية ويملك قنوات فضائية, بينما 70% من أفراد الشعب السوري لا يجدون ثمن المازوت!
والسؤال الشفاف والموجه لبشار الأسد هو : كيف أصبح رامي مخلوف مليارديراً بلمح البصر وهو لم يعرف عنه أنهُ كان ابناً لعائلة ثرية أو ورث من آبائه وأجداده الأموال والأطيان!؟
ذلك السؤال أوجهه لبشار الأسد لأنه وحده من يعرف وهو من لديه الإجابة الشافية, وبالمُناسبة هي ستكون نفس الإجابة عن سؤال آخر يقول : من أين لعم الرئيس رفعت الأسد تلك المليارديرات والفنادق الفخمة في ماربيلا ألأسبانية؟

ومشكلة النظام السوري أنهُ نظام دكتاتوري مادي شحيح ومُقتر على شعبه, بينما سوريا في الحقيقة من أغنى بلدان العالم, وفيها خيرات كثيرة تكفي الشعب السوري وتفيض, وكان بإمكان النظام ترفيه الشعب من خلال تقسيم الدخل القومي بعدالة على المواطنين, ومن خلال ذلك الدخل كان بالإمكان رفع قيمة الليرة السورية, لو أن الأموال التي تجبيها الدولة ذهبت إلى مكانها الصحيح, وليس إلى جيوب اللصوص والسراق.
فسوريا بلد زراعي والمياه متوفرة, والثروة الحيوانية فائضة, والسياحة رائجة فيه, وموانئ البلد قريبة جداً ومفتوحة على أوربا, وهنالك صناعات خفيفة ومتوسطة لا بأس بها, والدولة مُستقرة منذ أربعة عقود ولم يخض النظام أية حرب خارجية, فلماذا بقي المواطن مُعدماً وفي حالة مُزرية؟
ألم يفكر بشار لماذا؟
حتى الأغنام ذات اللحوم والصوف الأجود في العالم والتي تشتهر فيها نفس المناطق المتجاورة في سوريا والعراق, وهي ما تسمى بأغنام العواس السورية وأغنام النعيم العراقية, لا ينوب الشعب السوري منها شيء, ولا يذوقوا إلا الفتات وفي المُناسبات فقط, بينما تذهب جل تلك الأغنام المُميزة إلى دول الخليج!
كيف يمكن أن تكون سوريا من أكبر البلدان العربية المُصدرة للحوم الأغنام من نوع العواس الشهيرة بجود لحومها, 80% من الشعب يعتمد في غذائه على المكدوس!
ألم يسأل بشار الأسد نفسه لماذا يصدر لحوم الأغنام السورية لدول الخليج ويحرم شعبه الكادح من أن يتذوقها؟
فقد سبق أن لمح وليد المعلم في أحد مؤتمراته الصحفية الأخيرة, إلى أن النظام السوري غير راغب بحرمان دول الخليج من أغنام العواس, لأنهم تعودوا عليها وأحبوها!!
تخيل يساوم المعلم أنظمة الخليج على بطونهم, ويعتقد أنه من خلال التلويح بورقة الأغنام سيضغط عليهم, وهو يُدرك أن هنالك بدائل وأن مقايضته فاشلة وهزيلة.
وبدلاً من أن يُلوح المعلم بورقة أغنام العواس, كان الأحرى به أن يقول أنهم سيوقفون تصدير الأغنام إلى دول الخليج, لكي يشبع الشعب السوري لحماً وهم يعيشون الآن حالة من الحصار الاقتصادي شبيهة بحصار العراق.
لكن النظام السوري قد تعود على الانبطاح لدول الخليج لأنه صنع من بلده مكاناً لترفيه الخليجيين وجعل من ثرواته الحيوانية غذاءً شهياً لهم, وجعل من نفسه نظاماً فقيراً لكي يستجديهم, ولهذا فقد أدمن النظام على المال الخليجي ولن يستطيع أن يُحرر نفسه من تلك العادة, ومازال النظام السوري ينتظر طوق النجاة الخليجي لعلهم يرضوا عنه, وأنا أجزم الآن لو آل سعود أعطوا إشارة بسيطة لبشار الأسد لركض إليهم مهرولاً لكي يسترضيهم, لأنهُ سبق وأن وصفهم بأنصاف الرجال, لكنه سرعان ما ركب طيارة الملك السعودي عند أول إشارة سعودية.

فكم تباكى النظام السوري من سياسة قطر والسعودية العدوانية وكم تذمر من نهج قناة الجزيرة وقناة العربية, وكم شتم القرضاوي والعرعور, وينسى أنهُ بسياسته الداخلية الفاشلة وخنوعه لأنظمة الخليج وبإهماله لشعبه قد ساهم في تكالب هؤلاء عليه, والمثل العربي يقول : (يداك أوكتا وفوك نفخ).
وشخصياً أرى بعد كل تلك المجازر الدموية الرهيبة التي تورط بها النظام السوري بحق أبناء الشعب السوري, والتي يحاول أن يتنصل منها بحجج وأعذار سخيفة, يبدو أن مُعاناة الشعب السوري ستطول إذا لم تضع لها حداً, وأنا أجزم أن الغرض من تلك الإطالة هو تحطيم الشعب السوري وكسر معنوياته ليخرج من أزمته تلك منهاراً ضعيفاً مفككاً كما حدث في العراق, وذلك من خلال فرض الحصار الاقتصادي عليه وتجويع الشعب بأكمله, فعندما يفرض الحصار على النظام سوف لن يدفع الثمن إلا أبناء الشعب المغلوبين على أمرهم وخصوصاً الطبقات الفقيرة التي لا تجد قوت يومها.
لأنهم سبق وأن حاصروا الشعب العراقي وكان يدركون جيداً أن الضحية سيكون الشعب وحده, وأن النظام وأركانه لن يجوعوا قط, وهاهم الآن يطبقون نفس السيناريو الخبيث على أبناء الشعب السوري الذي هو مجوع أصلاً من قبل النظام وتعيش أغلب أسره على الكفاف.
أعتقد أنهُ آن الأوان لبشار الأسد ونظامه أن يرحلوا ويتركوا الشعب السوري العظيم أن يقرر مصيره, قبل أن يجروا البلد لمصير مجهول, فبشار قد فشل في تحرير الجولان كما فشل أبوه من قبله, وأخفق في توفير العيش الكريم للشعب, وتورط في مجازر دموية رهيبة كان آخرها مجزرة الحولة.
لقد آن الأوان للنظام السوري أن يرحل قبل أن يُرحل.

http://www.jazeeratalarab.com/
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

2012-05-28

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

صنائع الإنجليز - بيادق برسي كوكس وهنري مكماهون

نفق لص اليمامة وبقية الديناصورات السعودية تترقب

مسلسل «قيامة ارطغرل» ولادة جديدة للدراما التركية الهادفة